فاعلية الحراك الشعبي لن تتوقف وسيعتمد مستوى وتيرتها وزخمها الاحتجاجي على نتاج المسارات المستقبلية لهذه الانتخابات ، فكيف يتم الإصلاح التدريجي في بيئة طاردة للديمقراطية محكومة بالسلاح والفساد ؟ وكيف للقوى السياسية المتشبثة بالسلطة ان تسمح بالتغيير الفعلي على حساب فنائها؟..
في ظل هذه الهرمية التسلطية والدوغمائية لن تُسترد حقوق الشعب والشهداء مالم يحدث تغيير فعلي، وعلى السلطة الحالية ان تعيد النظر وبجدية في إحقاق العدالة واتخاذ إجراءات حازمة لفرض القانون ضد المجاميع الخارجة عنه التي تنتهك حقوق المجتمع والسيادة، وأخيراً لابد من تفكيك الروابط والقوالب التقليدية في خيالنا وأفكارنا وعلاقاتنا وتقديم الانتماء المركزي للوطن على الانتماء الفرعي لنحيا بكرامة وسلام..
نعتقد بأن المعادلة التي حكمت العقل الشيعي منذ قرون، تعرضت لانكشاف تاريخي خلال تجربتها السياسية بعد عام 2003 وحتى الآن، وأن ملامح المرحلة المقبلة قد تفرض عليها سلوك جديد يتجاوز الأطر القديمة التي كانت تحكمه طيلة السنوات السابقة وتتماشى مع الذهنية الجديدة التي افرزتها انتفاضة تشرين على المستوى السياسي والاجتماعي..
يمكننا أن نضع الاحتجاجات العراقية أو انتفاضة تشرين في خانة الاحتجاج الشعبوي الساخط على القوى السياسية العراقية وخطط الحكومة والسياسات الفاشلة، وهي احتجاجات معبره عن مطالب الطبقات الفقيرة، الداعية إلى تحسين الاوضاع بمختلف جوانبها، شبيه بحركة اصحاب الستر الصفراء في فرنسا التي شاركت بها الطبقة الوسطى ايضاً..
لم يحقق الاحتجاج كل الاهداف المرسومة، لكن ضغط الاحتجاج نجح في تحقيق بعض الخطوات رغما عن " القوى السياسية" على الرغم من عنجهية تعامل تلك القوى والسلطات مع الحركة الاحتجاجية التي تجسدت بقتل المتظاهرين واغتيال الناشطين الذي فاق عددهم الـ (600)، وخطف وتغييب الكثير ولازال البعض منهم غير واضح مصيره..
على الإدارة الإيرانية وحلفائها في العراق، أن يدركوا، بأن هناك جيل جديد من الشباب العراقي نشأ وترعرع في العراق غير الجيل الأول والثاني اللذين تعاملت معهم طهران ما قبل وبعد عام 2003. هذا الجيل ولد من رحم المعاناة العراقية، وعلى ما يبدو بأنه لا يعترف أو خرج عن القوالب والمحددات الجاهزة سواء الدينية منها أو السياسية، ويحاول أن يصنع مستقبله بنفسه بعيداً عن سياسات التعبئة والهيمنة والمفاهيم الايديولوجية..
لقد برز التأثير السيء الناتج عن كل ما تقدم من خلال النقمة الشعبية المستمرة، التي اظهرتها معظم الاطياف الاجتماعية العراقية – بين فينة وأخرى-وتجسدت، أخيرا، في شكل انتفاضة شعبية، واسعة وناقمة، في مناطق الوسط والجنوب، منذ الأول من تشرين الأول-أكتوبر 2019 والى الوقت الحاضر، قادت الى اسقاط حكومة السيد عادل عبد المهدي، وتهدد بتغيير موازين القوى بشكل قد يغير كامل المعادلة لما سمي بالعملية السياسية التي جاءت عقب الاحتلال الأمريكي..
الصراع ليس فقط بين جهة محلية وجهة خارجية، بل هو صراع على مستوى الطبقة السياسية بسبب التظاهرات الاخيرة، مما عقد المشهد السياسي وخلق حواجز اخرى قد تكون معوق نحو التغيير الكامل والشامل والحقيقي، فالإرادة الخارجية تحاول بشتى الوسائل وهي تمتلك أذرع وأدوات في العراق..
أن المشهد السياسي العراقي مفتوح امام كل الاحتمالات وقد بدأت بعضها تلوح في الافق ولكن الاكثر وضوحاً هو ان المتظاهرين لن يستجيبوا لدعوات الحكومة لان مطالبهم اكبر من قدرة الحكومة والطبقة السياسية على تلبيتها، والمرحلة التالية لعدم الاستجابة تكمن في الفوضى ودخول اجندات خارجية او ما يسمى بالطرف الثالث والرابع على الخط والبدء بحرق مؤسسات الدولة وسرقة ممتلكاتها وبالتالي ربما الذهاب الى حرب اهلية طاحنة ..
باختصار، حتى لو كان هناك تغيير في الحكومة العراقية وإصلاح شامل لمؤسساتها السياسية، كما اقترح بعض السياسيين، فإن الاستقرار الدائم سيبقى بعيد المنال من دون اجراء تسوية اقليمية وتقليل المنافسة العربية الإيرانية والامر الأكثر أهمية هو تقليل حدة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران..
تطورت حركة الاحتجاج واخذ مسارات عدة، حيث بدأت بتظاهرات توسعت تدريجيا في الساحات العامة وفي عدة محافظات وسط وجنوب العراق، وايضا تطور الامر حتى وصل إلى نوع من انواع الاضراب الخاص لعدد من النقابات مثل نقابة المحامين والمعلمين والمهندسين وغيرهم. وهذه النقابات غير حكومية وتعبر عن مصالح فئات متعددة، ربما نشهد في المستقبل توقف كامل لمؤسسات الدولة كما يحصل الان في محافظة (بابل / الديوانية / المثنى)، وهذا قد يتطور لكل مؤسسات الدولة..
دخلت المظاهرات الشعبية في العراق شهرها الثاني بعدما تفجرت في مطلع شهر تشرين الاول كنتيجة لانتفاخ الفساد المالي والإداري واستفحال الصراع السياسي على السلطة وهيمنة الأحزاب على كافة مفاصل ومؤسسات الدولة واقتسامها كغنائم وفق معادلات تتغير بتغير موازين القوى الإقليمية والدعم الخارجي على حساب السيادة واستقلال القرار الوطني..
كل دول المنطقة أن تعي جيدا بأن العراق لا يمكن ان يكون منصة لأي دولة من دول العالم ومنها الدول الاقليمية. ربما سنحت الفرصة لذلك الدور بعد عام 2003 لكن يبقى موقف الشعب العراقي هو من يحدد طبيعة النظام السياسي وتفاعلاته الإقليمية والدولية، طبقاً لمصلحة الدولة العراقية والشعب العراقي..
كشفت تظاهرات الشعب العراقي مطلع شهر تشرين الأول من العام الجاري 2019 حجم السخط الشعبي على إدارة الأحزاب السياسية لمؤسسات العراق وثرواته النفطية والمالية الغزيرة. حقيقة الامر لم تكن الثورة مستبعدة نظرا لما شهدته السنوات الماضية من احتقان وتأزم وانعدام للثقة بين الشعب والسلطة..
ان نجاح الحكومة في جميع او بعض ما أعلنته من حزم إصلاحية لا يعفيها من مسؤولية ما حصل اطلاقا، بل قد يُرتب نجاحها المزيد من المسؤولية عليها تحت طائلة أسباب تقاعسها عن القيام بمثل هذه الإجراءات قبل اندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة ووقوع هذا العدد الكبير من الضحايا..
تؤكد الاجراءات الحالية، والاجراءات التي تعاملت بها الحكومات السابقة، عدم وجود رؤية واضحة لتصحيح الاوضاع السياسية والاقتصادية على الرغم من وجود منهاج حكومي صوت عليه مجلس النواب بالإيجاب، ويفترض ان المجلس منح الثقة للحكومة على اساسه. كذلك تؤكد تلك الاجراءات انها تمثل استجابة لمطالب فئات معينة من دون ان تستجيب لآمال وطموحات الشباب بشكل عام، كما انها اجراءات غير مدروسة من حيث عواقب عدم تحقيقها وتلبيتها..
وما يحصل في العراق هو عملية توظيف الشارع الشعبي من اجل تحقيق مكاسب اغلبها سياسية تؤدي الى خروج الاوضاع عن السيطرة وربما لحرب اهلية لكون كل طرف يرى في تلك التجمعات استهداف له ، وعلى هذا المنوال ينبغي زيادة ثقة الجمهور بنفسه حتى يتمكن من التفريق ما بين النافع والضار ، اضافة الى ضرورة البقاء في نطاق التعبير السلمي وعدم الانجرار وراء الشعارات المعادية وعدم الاحتكاك مع الاجهزة الامنية او الاعتداء على المؤسسات الرسمية باعتبارها ملك عام..
على الحكومة القادمة اجراء مراجعة شاملة لمجمل الاخطاء والوقوف على المسببات لا سيما وان اغلب المطالب ذات طابع خدمي ومتشابه في غالبية المحافظات وهذا يسهل من تنفيذها في حال توافرت النية الصادقة لذلك والعمل على مكافحة الفساد وازالة الترهل وتقليل الروتين وصرف المخصصات لمستحقيها ..