العراق بين تشرينين : من اليأس الاجتماعي إلى الانتحار السياسي

     ان الديناميكية القسرية للتحول الديمقراطي المشوه الذي فرضه الاحتلال الاميركي على العراق وكبله بمفاهيم مبتورة واليات هشة وازمات مفخخة لم يكن خيارا حراً متخذاً من قبل الشعب نابعاً عن مسؤولية وطنية أو ناتجاً عن صيرورة اجتماعية وسياسية ، إذ فرض كقرار من القوى الخارجية لا يمثل امتداداً طبيعياً بل اختزالية انتقائية لنموذج حكم هزيل ومرحلي مهجن لم يراعي البديهيات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للعراق جغرافيةً وشعباً ، مما أدى إلى خلق استفهامات متضادة حول امكانية التعارض ام الاستيعاب السريع أو البطيء لتجربة سياسية مغايرة للنمطية التسلطية المتوارثة وكيفية توليف ذلك داخلياً ومن ثم محددات التكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية .

      إذ جسدت عدم ايمان جمعي خالص يحكمه اليأس من تجربة جديدة في ظل عدم تهيئة الذات المجتمعية وارتهانها بين الحفاظ على الوضعية الصلبة لمؤسسات الدولة أو المخاطرة بهيكلتها نحو مديات مجهولة تفتقر للدراسة والاستراتيجية الشاملة  حتى وصلنا إلى ما عليه اليوم حيث الضياع بين انهاء عضوي ووجودي للدولة وبين قوى مستلبة للحرية تحدد كيفما تشاء الحريات وتكفرها وتسلب الحقوق وتتحدث باسم الدولة التي لا تؤمن بها من الأساس ضمن تراكميات تفنيدية لتدميرها وتفتيت وحدة أبنائها ، يتعامد ذلك مع تصريح وزير الدفاع الأميركي الأسبق " دونالد رامسفيلد " بعد احتلال العراق وبداية تجربة الحكم الجديد : ( اننا منحنا العراقيين الحرية ، والحرية الآن هي ايضاً حرية فعل الشر ) .  

     ان انتخابات تشرين تعبر عن مراهنة اخيرة من قبل القوى السياسية لاحتواء المواقف الغاضبة والرافضة لوجودهم في السلطة ضد سلوكياتهم وممارساتهم الفاسدة وعدم تحمل مسؤولية الوطن ، والفشل في ادارة موارد البلاد البشرية والمادية والتفريط في مستقبل الاجيال دون مستوعبات حية لإمكاناتهم وقدراتهم وتغييب امالهم في ظل بيئة ملتهبة متشظية ، لم يفهم السياسيون للان ماهية الوطن حتى يستوعبوا حقيقة وجود المواطن وكيفية صيانة كرامته ، وفي الوقت الذي يحاولون كسب شرعية جديدة بنفس النمطية الانتهازية فإنهم يفتقرن لمشروعية بقائهم في الحكم ، فهم دون انتماء وبلا ذهنية وطنية متخندقين في اجندات طارئة خارجية أو متحزبة لموروث سياسي متهالك وولاءات مصلحية متعددة او افاق ضيقة ديدنها القوة والنفعية ، من دون مشروع سياسي بناء أو طموح وطني هادف ، حافظت على بقاء العملية السياسية وديمومة مستقبلها ضمن تلك الأطر المغلقة مما أدى إلى ترسيخ الهيمنة لتعددية حزبية متصارعة وتجنيد ميليشيات منضوية تحت تبعيات مختلفة وبمرجعيات متخالفة ، وفتح المجال أمام عدم الاستقرار السياسي والصراع المصلحي الثأري والطائفي .

    ان  استمرارية محاولات التكييف السياسي القسرية للبيئة الانتخابية من اجل الحفاظ على الهرمية السياسية السلطوية والحيلولة دون تغيير جذري للواقع السياسي ومحاولات القفز على الضمير المجتمعي بالمدخلات والمخرجات الانتخابية بهدف التغيير ما هي الا - تغيير من اجل اللا تغيير - بشكلانيات محدثة ودعوة إصلاحية قلقة ومهزومة ، مؤداها ان يكون الجمهور الناخب ضحية العمليات التبسيطية حول بناء الحاضر والمستقبل ، إذ نلاحظ منذ خوض التجربة السياسية في العراق انها افصحت مبكراً عن عودة للوراء أكثر شراسة من النظم السابقة من حيث استبداديتها وفوضويتها  ، اتضح ذلك جلياً منذ الاحتجاجات التي اندلعت عام 2019  التي كشفت عن الميكانيزمات الحقيقية التي تعاملت بها السلطة مع تصاعد ذروة الحراك التشريني بسبب اليأس والكبت الاجتماعي وزيادة المطالبة الحقوقية ( الذروة التي عبرت عن محاولات حقيقية لتشعير المسؤولية المجتمعية وتفعيل الهوية الوطنية ) وقتل المتظاهرين وخطف الناشطين المدنيين والتهاون في عدم محاسبة القتلة لحد الآن ، فضلاً عن اشكاليات دستورية نظرية وعملية بين الواقع الآني والواقع المأمول المراد الانتقال اليه الذي بت من جانبه في حقيقة الإشكاليات العلائقية المتخمة بين السلطة والمجتمع .

     لم تكن الانتخابات في العراق وهي المخرج الحقيقي للتعبير عن الإرادة الجامعة الوطنية في النظم السياسية الديمقراطية سواء التجارب الكلاسيكية أم الحديثة الا شرعية ناقصة في غير موضعها لشرعنة وترسيخ بقاء من تزعموا العملية السياسية بعد عام٢٠٠٣  وهم قوى واشخاص حديثي العهد على العمل السياسي ولا يمتلكون الخبرة السياسية وافتقارهم لتقديم أي انتاج اجتماعي او اقتصادي او سياسي ناجح ، ولولا النفوذ والسلطة التي حصلوا عليها بالمجان فهم بلا قيمة بلا وجود ، فضلاً عن اصرارهم على ترحيل جميع الأزمات وعدم تحمل المسؤولية في مواجهتها وإيجاد معالجات ناجعة لها .

    رسخ الحراك الشعبي لزوميات التغيير الجذري برفض المنظومة السياسية كاملة ًمما اضطر القائمين على السلطة الى التبكير بالانتخابات، والمفارقة ان موعد اجرائها في تشرين الاول من هذا العام، اي تزامنا مع الذكرى السنوية لاندلاع الحراك التشريني وهي عملية تسويفية لاستمالة العواطف وخلق غطاء شرعي بدعوى تلبية مطالب الحراك في سن قانون انتخابي جديد وإصلاحات مؤسسية في المفوضية واجراء انتخابات مبكرة، وما هي الا محاولة يائسة للمحافظة على ما تبقى للكتل السياسية من رصيد شعبي لبعض المؤيدين المرحليين والمنتفعين.

     ويعبر المشهد الانتخابي الحالي عن توظيف تدليسي لما يعرف بـ (الركوب المجاني) بقصد استغلال اي ظاهرة اجتماعية او سياسية والانخراط فيها دون الايمان بها وركوب موجتها لقطف ثمار مخرجاتها رغم عدم المشاركة او تحديد اي موقف فيها خلال ذروتها، وهذا ما يحدث فعلاً بخصوص توظيف الاحتجاجات لكسب مشروعية مستلبة ولكي تكون سُلماً نحو تعضيد الرصيد الانتخابي.

    ورغم ترشيح وجوه واصوات جديدة وكتل بعناوين جديدة وضم الفئة الشبابية الرخوة التي يدعي بعضها الاستقلالية أو الانتماء الى الحراك الثوري التشريني ، وبعضها الاخر منبثق من نفس الكتل التقليدية لكن بملامح وتشكيلات وشعارات جديدة ، الا ان ذلك لن يخفي حقيقة ان هذه الانتخابات وليدة لنفس العملية السياسية المتزعزعة منذ عام ٢٠٠٣ التي لم تنجح بتاتاً في الوصول الى مرحلة النضج السياسي لتأسيس النظام السياسي المتكامل او حتى الى ابجدياته الديمقراطية البسيطة ، ورغم ان الانتخابات المبكرة كانت مطلباً جماهيريا للحراك الشعبي الا انها ضمن مطالب التغيير الجذري وليس الإصلاح الترقيعي أي تغيير المنظومة السياسية بالكامل وتأسيس نظام سياسي جديد بقطيعة نهائية مع العملية السياسية الحالية ، وإلا فإنه ستنبثق عملية مشوهة أخرى .

      ان غياب العنصر الثقافي-الانتمائي الوطني في بناء النظام الانتخابي الذي يعد وليداً لثقافة المنظومة السياسية القائمة أدى بالمحصلة إلى غياب مقومات المشروعية الانتخابية (التمثيل الحقيقي، المقبولية الاجتماعية، الثقة بالمخرجات، تحقيق مستويات مقبولة على اقل تقدير من الإنجاز المقترح للبرامج الانتخابية، الحيادية والثبات على المواقف ...) المرتبطة آنياً بشرعية مشروطة وهي الشرعية الشعبية.

     وسواء ظهرت دعوات على مختلف الصعد الاجتماعية والدينية بضرورة المشاركة في الانتخابات ، فإن العراقيين امام خيار فيصلي بيني (بين المظلومية الاجتماعية والاستحقاقية الوجودية المغيبة) ، لاسيما وان الممارسة الانتخابية غير ناضجة وسريعة التشكل ونسبية تكونت في ظل عملية سياسية قابلة للانهيار ، وهي غير مرخصة في تبني مطالب الحراك الشعبي لأنها لم تكن من مخرجات قاعدته المطلبية ، فضلاً عن كون العملية السياسية مفككة وغير منضبطة لم تحترم العقل السياسي والمجتمعي العراقي ولم تراعي خصوصياته الاجتماعية التعددية وحساسياته الطائفية والأثنية ، وتشهد اليوم صراعها الأخير بمنحنى تراجيدي مفضوح نحو تدوير السلطة، وان فاعلية الحراك الشعبي لن تتوقف وسيعتمد مستوى وتيرتها وزخمها الاحتجاجي على نتاج المسارات المستقبلية لهذه الانتخابات ، فكيف يتم الإصلاح التدريجي في بيئة طاردة للديمقراطية محكومة بالسلاح والفساد ؟ وكيف للقوى السياسية المتشبثة بالسلطة ان تسمح بالتغيير الفعلي على حساب فنائها؟

التعليقات