الاحتجاجات في العراق: عنف غير مسبوق وإصلاحات حكومية متناقضة

شارك الموضوع :

ان نجاح الحكومة في جميع او بعض ما أعلنته من حزم إصلاحية لا يعفيها من مسؤولية ما حصل اطلاقا، بل قد يُرتب نجاحها المزيد من المسؤولية عليها تحت طائلة أسباب تقاعسها عن القيام بمثل هذه الإجراءات قبل اندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة ووقوع هذا العدد الكبير من الضحايا

مقال بقلم:

الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية.

الأستاذ المساعد الدكتور حيدر حسين ال طعمة باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

 

شهد العراق خلال المدة من 1 الى 6 تشرين الأول –اكتوبر 2019 موجة خامسة من الاحتجاجات الشعبية شملت محافظات: بغداد، ذي قار، ميسان، النجف، بابل، البصرة، واسط، ديالى، المثنى، الديوانية، وكربلاء، وهي المحافظات الرئيسة لتمركز الطائفة الشيعية في هذا البلد. وما يميز هذه الاحتجاجات عن سابقاتها هو انها كانت – بحسب جميع المراقبين المحليين والدوليين- الأكثر اتساعا في حجم المشاركة الشعبية فيها مع عدم تبنيها او قيادتها رسميا من أي جهة سياسية رئيسة في الحكومة العراقية او خارجها، هذا من جانب، ومن جانب آخر، هي الأكثر عنفا في حجم القوة المفرطة المستخدمة من قبل الحكومة وأجهزتها الأمنية، وهو ما دل عليه حجم القتلى والمصابين الذي بلغ اكثر من ستة الاف شخص بحسب بيانات مفوضية حقوق الانسان العراقية – جهة رقابية حكومية مستقلة- التي اشارت في تقييمها لما جرى الى أمور عديدة لا تصب في مصلحة احترام المواثيق الوطنية والدولية المرتبطة بحقوق الانسان اقترفتها حكومة السيد عادل عبد المهدي منها: عدم تطبيق معايير الاشتباك الآمن في الحالات المماثلة نتيجة عدم التدرج في إجراءات التعامل مع الاحتجاجات واللجوء الفوري الى قمعها باستخدام الرصاص الحي والمطاطي والضرب بالهراوات والدهس بالعربات الحكومية واستخدام المياه الحارة والغاز المسيل للدموع بشكل مكثف، والقيام بالاعتقالات العشوائية للمتظاهرين بدون مذكرات قبض قانونية، وانتشار بعض القناصين مجهولي الانتماء على بعض البنايات وقيامهم بقتل مشترك للمتظاهرين وبعض العسكريين تحت مرأى ومسمع الاجهزة الأمنية، وقطع خدمة الانترنيت بشكل كلي عن العراق باستثناء إقليم كوردستان، فضلا عن فرض حظر شامل للتجول في مناطق الاحتجاجات الرئيسة وتعرض عدد من القنوات الفضائية المتعاطفة معها الى هجمات تخريبية من جهات غير محددة دون ان تتخذ الحكومة إجراءات حاسمة لحمايتها، إضافة الى منع المؤسسات الصحية من الادلاء بأي معلومات عن القتلى والمصابين للفرق ذات العلاقة بمفوضية حقوق الانسان، ومنع الأخيرة –أيضا من اللقاء بالمعتقلين، وتكرر الامر نفسه مع وسائل الاعلام المحلية والدولية والمؤسسات الرقابية المختلفة

وعلى الرغم من حديث الرواية الرسمية عن وجود مؤامرة خارجية تستهدف الحكومة بشكل أو آخر، فانه ومع عدم تقديم الحكومة لأدلة قاطعة تثبت روايتها تبقى الأسباب الحقيقية للتظاهرات الأخيرة كامنة في فشل أداء الحكومة والطبقة السياسية العراقية وعجزهما عن معالجة ملفات عديدة ارهقت ولا تزال المواطن العراقي واستنزفت طاقته على الصبر والاحتمال، ومنها: البطالة، تدهور البنية التحية، الفساد الذي شمل دوائر الدولة جميعها من اعلى هرم السلطة الى اصغر دوائرها، التدهور الاقتصادي الشامل لقطاعات الزراعة والصناعة والخدمات، تخلف القطاع الخاص وعدم تنشيط الاستثمار المحلي والاجنبي، الفقر، ضعف سلطة انفاذ القانون وتخلف الإجراءات القضائية الرقابية والعقابية، عدم الجدية في تفعيل القوانين النافذة او عدم تشريع تلك الضرورية منها، البيروقراطية وغياب التنسيق بين مؤسسات الدولة الاتحادية والمحلية وتحولها الى ما يشبه اقطاعيات اسرية وحزبية، تشريع قانون للانتخاب لا يحضى بدعم الشارع العراقي، المحاصصة الطائفية والعرقية، انتشار السلاح خارج سلطة القانون، فضلا عن عدم تلبية مطالب الناس في الاحتجاجات السابقة، وتفشي الظلم والتسويف الحكومي... كل ذلك خلق فجوة متزايدة وحنق وانعدام ثقة متصاعد بين الحكومة والمواطن العراقي، لاسيما لدى فئة الشباب.

ولكن مع وجود كل الملفات المعقدة والمتراكمة أعلاه، وعدم النجاح في وضع حد لها يظل غياب مشروع الدولة لدى صناع القرار المؤثرين في العراق، وعدم توفر الإرادة الحاسمة لديهم في ايجاده سببا مهما ورئيسا في استمرار الارتباك السياسي وانتشار عقلية الغنيمة لدى الطبقة السياسية في الصراع على تقاسم مغانم السلطة والثروة، وهذا الامر في حال استمراره سيفتح عاجلا ام آجلا الباب نحو الفوضى العارمة وخيمة العواقب في الساحة السياسية العراقية.

ان لجوء بعض المتظاهرين للعنف إزاء الأجهزة الأمنية لا يبرر هذه القسوة الحكومية البشعة في قمع التظاهرات وشيطنتها بعلة المندسين والتآمر الخارجي، بل قد يكون هذا العنف ردا طبيعيا على عنف أجهزة الحكومة نفسها، وهذا يؤشر على عدم رسوخ واحترام قيم واحكام وقواعد الحكم الديمقراطي في العراق لدى مؤسساته التنفيذية، على الرغم من وجود النصوص الدستورية والقوانين النافذة التي تؤكد صراحة وبشكل قاطع على احترام الحقوق والحريات العامة للمواطنين. وعليه، تتحمل حكومة العراق المسؤولية الكاملة عن كل الفضائع التي انتجت ورافقت الاحتجاجات الأخيرة، وفقا لما ذهبت اليه معظم المؤسسات الحقوقية الوطنية والدولية، ومعها المرجعية الدينية في النجف، التي يتزعمها المرجع الأعلى للشيعة السيد علي السيستاني، الذي أشار الى ذلك بصراحة تامة، عبر ممثله في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي من خلال خطبة الجمعة يوم الحادي عشر من تشرين الأول-اكتوبر 2019، واصفا ما حصل بأنه عنف حكومي غير مسبوق خلف عددا كبيرا من الضحايا نتيجة الاستهداف المباشر لهم من الأسلحة النارية ... في مشاهد فضيعة تنم عن قسوة بالغة فاقت التصور وجاوزت كل الحدود، ليضيف أن الحكومة والأجهزة الأمنية مسؤولة عن الدماء الغزيرة التي اريقت ...سواء من المواطنين الأبرياء أو من العناصر الأمنية المكلفة بالتعامل معها وليس بوسعها التنصل عن تحمل هذه المسؤولية الكبيرة، وهذا ربما يعني ان الحكومة العراقية برئاسة السيد عادل عبد المهدي باتت معرضة الى المحاسبة القانونية والأخلاقية عن إجراءاتها غير الموفقة التي اتخذتها في مواجهة هذه الاحتجاجات، والتي قد ترقى الى جرائم خطيرة ضد الإنسانية تتنافى تماما مع متطلبات الحكم الديمقراطي المستند الى سيادة القانون.

لقد حاولت الحكومة بعد تراجع حدة الاحتجاجات امتصاص النقمة الشعبية المسببة لها او تلك المتصاعدة نتيجة لها من خلال جملة من الإجراءات ذات الطابع الاقتصادي أطلقت عليها حزم إصلاحية، ومع شك الكثير من المراقبين بقدرة الحكومة المالية والقانونية على تنفيذ ما وعدت به من إصلاحات يبقى التساؤل الأساس هو: هل تستطيع هذه الحزم لتلبية مطالب العراقيين وتمنع انهيار الوضع أكثر؟

على الرغم من مما درته أسواق النفط العالمية على العراق من موارد مالية ضخمة عززت رصيد الموازنة العامة وزادت من فرص النمو والاستقرار الاقتصادي، الا ان ضعف الإدارة الرشيدة وغياب الرؤية الاقتصادية والنزاهة والإخلاص حولت الفرص الى مخاطر وزادت من عمق المأزق التنموي الموروث في البلدان النفطية.

ان الفقر، والتهميش، وجيش العاطلين عن العمل، والانكشاف الاقتصادي والمالي والتجاري، وضعف البنية التحتية والخدمات، هي أبرز مخرجات الحكومات العراقية المتعاقبة بعد العام 2003، فضلا على مشاكل مغمورة كتفاقم نمو معدلات الدين العام، واختلال ميزان المدفوعات، وهروب راس المال وغيرها من النتائج العكسية.

واستجابة حكومة السيد عادل عبد المهدي لتلك التحديات بعد تفجر التظاهرات الأخيرة والضغوط الداخلية والخارجية برفعها راية الإصلاح الاقتصادي بنفس مضامين الإصلاح المقدم من الحكومات السابقة يطرح الشك حول إمكانية تنفيذ وعودها الإصلاحية، الا ان ما يهمنا هنا تقييم حزم الإصلاح الاخيرة المقدمة من قبلها من حيث الضرورة والاهمية وفي إطار الإمكانات والاولويات المطلوبة.

الإيجابيات في هذه الحزم تتمثل في:

1- فتح باب التقديم للأراضي المخصصة لذوي الدخل المحدود والفئات الأخرى يعد التفاتة جيدة من قبل الحكومة ولكنها مشروطة بتحديد إطار زمني لا يتجاوز العام الحالي وأيضا مشروطة بقدرة الحكومة على توفير البنية التحتية والخدمات اللازمة لهذه الأراضي.

2- إعداد وتنفيذ برنامج وطني للإسكان يشمل بناء مائة ألف وحدة سكنية موزعة على المحافظات، ومنح الأولوية للمحافظات والمناطق الأكثر فقرا.

3- تعزيز رصيد صندوق الإسكان من خلال وزارة المالية لزيادة عدد المقترضين وتمكينهم من بناء الوحدات السكنية على قطع الأراضي التي ستوزع على المواطنين وتضمين ذلك في موازنة 2020 وجعل القروض معفاة من الفوائد وفقا لقانون الصندوق.

4- منح 150 ألف شخص من العاطلين عن العمل ممن لا يملكون القدرة على العمل منحة شهرية قدرها 175 ألف دينار لكل شخص ولمدة ثلاثة أشهر، لكن يجب ان تكون آلية التوزيع محكمة وبيان أوجه التخصيص للتأكد من إمكانية تطبيق هذه الخطوة.

5- يعد إنشاء مجمعات تسويقية حديثة (أكشاك) في مناطق تجارية في بغداد والمحافظات توزع خلال ثلاثة أشهر، على أن يتعهد صاحب الكشك بتشغيل اثنين من العاطلين عن العمل، خطوة جيدة لاستيعاب شريحة مهمة من المجتمع من ذوي المهارات المحدودة. 

6- إعداد برنامج تدريبي وتأهيل العاطلين عن العمل بالإضافة إلى توفير قروض لتأسيس المشاريع المتوسطة والصغيرة من خلال صندوق القروض المدرة للربح في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أو منحهم قروضا من خلال مبادرة البنك المركزي لإقراض الشباب والبالغة (ترليون) دينار، ولكن هذا يشترط تبسيط الإجراءات واحكام اليات العمل.

7- تقديم تعويضات للضحايا من المتظاهرين والأجهزة الأمنية وشمولهم بالقوانين النافذة ومنح عوائلهم الحقوق والامتيازات المترتبة على ذلك.

8- تضمين مشروع قانون الموازنة لعام 2020 تجميد العمل بالقوانين والتعليمات النافذة التي تمنح الحق باستلام الشخص أكثر من راتب او تقاعد او منحة وتخييره باستلام أحدها. 

9- قيام وزارة التجارة بتبسيط إجراءات تسجيل الشركات الصغيرة للشباب (للفئة العمرية 18-35 سنة) واعفائهم من الاجور المستحدثة لغرض توفير فرص عمل لهم.

10- منح الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والمحافظات صلاحية الإحالة المباشرة لأعمال (الترميم، الصيانة، الإنشاء، التوسيع والاضافة، النصب، التشغيل، التجهيز، التنظيف، النقل) والتي كُلفها تصل لغاية 500 مليون دينار، وكذلك المشاريع التي تقل كُلفتها عن مليار دينار الى هذه الشركات أو متعهدين من الشباب العراقيين غير المصنفين، واستثناءً من أساليب التعاقد المنصوص عليها في المادة (3) من تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم (2) لسنة 2014 وتعليمات تنفيذ الموازنة النافذة في وقتها.

11- قيام هيئة المستشارين في رئاسة مجلس الوزراء بدراسة تخفيض سن التقاعد للموظفين وتقديم رؤية لمجلس الوزراء خلال اسبوعين بغية استبدالهم بالشباب العاطلين عن العمل على ان يشمل القانون الجديد الرئاسات الثلاث وتستثنى منه الكفاءات العلمية.

12- إلزام الجامعات والكليات الأهلية باستيعاب أعداد مناسبة من حملة الشهادات العليا حسب الطاقة الاستيعابية المتاحة من خلال اعتماد ملاك تدريسي بنسبة (1) مدرس: (25) طالب في التخصصات الادارية والانسانية، ونسبة 1: 20 في تخصصات العلوم الصرفة، ونسبة 1: 15 في التخصصات الهندسية والمجموعة الطبية.

13- قيام الامانة العامة لمجلس الوزراء بتشكيل لجان في المحافظات تتولى متابعة قرارات مجلس الوزراء الخاصة بتلبية مطالب المتظاهرين لتكون برئاسة أحد السادة الوزراء وعضوية اعضاء مجلس النواب عن تلك المحافظة والمحافظ وقائد الشرطة وممثل عن خلية المتابعة الميدانية في مكتب رئيس الوزراء على ان ترفع تقاريرها الدورية للسيد رئيس مجلس الوزراء وان تنجز اعمالها خلال مدة اقصاها ثلاثة أشهر.

14- إلزام الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة والمحافظات بتغطية احتياجاتها من المنتجات المحلية بما فيها منتجات القطاع الخاص التي تتوفر فيها قيمة مضافة تزيد على 20%.

  اما السلبيات المتضمنة في هذه الحزم فهي:

1- إعداد وتنفيذ برنامج للإسكان بهدف بناء مائة ألف وحدة سكنية للمحافظات كأحد طروحات الحكومة لحل مشكلة السكن ترد عليه جملة من الملاحظات الأولى كون المشروع غير قابل للتحقق ضمن الإمكانات المتاحة، والثانية ان الأولوية يجب ان تكون لاستكمال المشاريع السكنية القائمة وضمن اطر زمنية محددة.

2- نصت بعض الإجراءات على استيعاب جزء من الايدي العاملة العاطلة عن العمل ضمن مؤسسات الدولة، وهذا لا يتناسب مع ترهل القطاع الحكومي وضخامة الرواتب والأجور وضعف الإيرادات الحكومية من جهة، ومع توجيهات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ضمن الاتفاقات الموقعة مع العراق والقاضية بترشيق المؤسسات الحكومية والقضاء على البطالة المقنعة وزيادة إنتاجية الموظف العراقي من جهة اخرى.

3- ان جزء كبير من الإجراءات الحكومية تركت بدون بيان أوجه التمويل المالي لها مما يجعل تلك الإجراءات حبرا على ورق، خصوصا مع افاق قاتمة لأسعار النفط خلال العام 2020.

4- وفتح باب التطوع للجيش وعودة المفسوخة عقودهم ضمن الأجهزة الأمنية والعسكرية يتنافى مع توجهات الحكومة الى تقليص عسكرة الدولة وخفض التخصيصات العسكرية وتوجهها صوب مشاريع البناء والاعمار نظرا لتحسن الوضع الأمني من جهة، وترهل المؤسسة العسكرية نفسها من جهة ثانية.

5- أخيرا، ان معظم الإجراءات المطروحة بعيدة عن بنود البرنامج الحكومي، وعليه فان الحكومة مطالبة بتقديم برنامج حكومي جديد يتناغم مع متطلبات المرحلة، خصوصا مع فشل البرنامج الحكومي القائم من حيث التصميم والتنفيذ وفق المعايير النسبية.

على أي حال، ان نجاح الحكومة في جميع او بعض ما أعلنته من حزم إصلاحية لا يعفيها من مسؤولية ما حصل اطلاقا، بل قد يُرتب نجاحها المزيد من المسؤولية عليها تحت طائلة أسباب تقاعسها عن القيام بمثل هذه الإجراءات قبل اندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة ووقوع هذا العدد الكبير من الضحايا، وستبقى الأيام والاسابيع القادمة حبلى بالمفاجآت التي ستفرض مخاطرها على حكومة السيد عادل عبد المهدي، ومعها كل الطبقة السياسية المتسيدة للساحة العراقية.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية