نعتقد بأن المعادلة التي حكمت العقل الشيعي منذ قرون، تعرضت لانكشاف تاريخي خلال تجربتها السياسية بعد عام 2003 وحتى الآن، وأن ملامح المرحلة المقبلة قد تفرض عليها سلوك جديد يتجاوز الأطر القديمة التي كانت تحكمه طيلة السنوات السابقة وتتماشى مع الذهنية الجديدة التي افرزتها انتفاضة تشرين على المستوى السياسي والاجتماعي..
أن غياب المنافسة السياسية الحقيقية في المشهد السياسي العراقي، وغياب الايديولوجية السياسية والشعبية التي من شأنها أن تنافس تيارات وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي طيلة المرحلة الماضية، وضعها في موضع مريح حتى ما قبل انطلاق تظاهرات تشرين نهاية العام 2019, لكن هذا الوضع اختلف "نوعاً ما" مع ولادة حركة تشرين وبات الخوف والخشية يكتنف أغلب تيارات الإسلام السياسي من مستقبلها السياسي..
يمكننا أن نضع الاحتجاجات العراقية أو انتفاضة تشرين في خانة الاحتجاج الشعبوي الساخط على القوى السياسية العراقية وخطط الحكومة والسياسات الفاشلة، وهي احتجاجات معبره عن مطالب الطبقات الفقيرة، الداعية إلى تحسين الاوضاع بمختلف جوانبها، شبيه بحركة اصحاب الستر الصفراء في فرنسا التي شاركت بها الطبقة الوسطى ايضاً..
لم يحقق الاحتجاج كل الاهداف المرسومة، لكن ضغط الاحتجاج نجح في تحقيق بعض الخطوات رغما عن " القوى السياسية" على الرغم من عنجهية تعامل تلك القوى والسلطات مع الحركة الاحتجاجية التي تجسدت بقتل المتظاهرين واغتيال الناشطين الذي فاق عددهم الـ (600)، وخطف وتغييب الكثير ولازال البعض منهم غير واضح مصيره..
يمر الاقتصاد العراقي بأزمة اقتصادية ومالية حادة جراء تزامن الصدمات الخارجية والداخلية مع تحديات بنيوية خطيرة تزيد من هشاشة الدولة كانعدام الاستقرار السياسي والاضطرابات الاجتماعية المتصاعدة. ومما زاد الوضع تعقيدا تعاقب ثلاثية (الاحتجاجات الشعبية، انهيار اسعار النفط، جائحة كورونا)، لتضاف الى تراكم ازمات اثقلت كاهل الاقتصاد العراقي المأزوم اساسا بمنظومة حكومية مترهلة وغارقة في البيروقراطية والمحسوبية والفساد..
على الإدارة الإيرانية وحلفائها في العراق، أن يدركوا، بأن هناك جيل جديد من الشباب العراقي نشأ وترعرع في العراق غير الجيل الأول والثاني اللذين تعاملت معهم طهران ما قبل وبعد عام 2003. هذا الجيل ولد من رحم المعاناة العراقية، وعلى ما يبدو بأنه لا يعترف أو خرج عن القوالب والمحددات الجاهزة سواء الدينية منها أو السياسية، ويحاول أن يصنع مستقبله بنفسه بعيداً عن سياسات التعبئة والهيمنة والمفاهيم الايديولوجية..
ومع دخول عام 2020 يبدو ان العراق سيستمر بمفاجئة الجميع بمجرياته احداثه، لذا تبرز تساؤلات ملحة عديدة حول ما يحمله العام الجديد له من توقعات، لاسيما ان محيطه الإقليمي يغلي على صفيح ساخن، مدعوما بتقاطع مصالح وسياسات واضح بين القوى الكبرى الرئيسة المؤثرة في الشرق الأوسط..
تأخر "القوى السياسية" في العراق – وبالأخص القوى "الشيعية" - خطوات وسنوات عن التحول الاجتماعي الحاصل بسبب عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عدة، جعلها في مأزق اليوم وهي تواجه حراك اجتماعي احتجاجي واسع شكل صدمة كبيرة لها في جغرافية يعتقدون انها عمق انتخابي وجماهيري لهم..
يتوقع ان يحشر الاقتصاد العراقي في الزوايا الضيقة للازمة الاقتصادية الراهنة، مما يتطلب الوقاية واستباق السيناريوهات الحرجة بجملة من الاجراءات التي قد تقي البلد الانزلاق لركود واضراب اقتصادي يفاقم الاوضاع المعيشية..
الرد الذي حصل بدخول الخضراء ومحاولة اقتحام السفارة الامريكية يُظهر بدرجة كبيرة لا تقبل الجدل ضعف حكمة الحكومة العراقية والقوى الرئيسة المهيمنة عليها، فهو الى جانب كونه خطأ لا يُغتفر، فأن له تداعيات وعواقب وخيمة على سمعة الدولة العراقية، ومستقبل قياداتها السياسية..
لقد برز التأثير السيء الناتج عن كل ما تقدم من خلال النقمة الشعبية المستمرة، التي اظهرتها معظم الاطياف الاجتماعية العراقية – بين فينة وأخرى-وتجسدت، أخيرا، في شكل انتفاضة شعبية، واسعة وناقمة، في مناطق الوسط والجنوب، منذ الأول من تشرين الأول-أكتوبر 2019 والى الوقت الحاضر، قادت الى اسقاط حكومة السيد عادل عبد المهدي، وتهدد بتغيير موازين القوى بشكل قد يغير كامل المعادلة لما سمي بالعملية السياسية التي جاءت عقب الاحتلال الأمريكي..
الصراع ليس فقط بين جهة محلية وجهة خارجية، بل هو صراع على مستوى الطبقة السياسية بسبب التظاهرات الاخيرة، مما عقد المشهد السياسي وخلق حواجز اخرى قد تكون معوق نحو التغيير الكامل والشامل والحقيقي، فالإرادة الخارجية تحاول بشتى الوسائل وهي تمتلك أذرع وأدوات في العراق..
أن المشهد السياسي العراقي مفتوح امام كل الاحتمالات وقد بدأت بعضها تلوح في الافق ولكن الاكثر وضوحاً هو ان المتظاهرين لن يستجيبوا لدعوات الحكومة لان مطالبهم اكبر من قدرة الحكومة والطبقة السياسية على تلبيتها، والمرحلة التالية لعدم الاستجابة تكمن في الفوضى ودخول اجندات خارجية او ما يسمى بالطرف الثالث والرابع على الخط والبدء بحرق مؤسسات الدولة وسرقة ممتلكاتها وبالتالي ربما الذهاب الى حرب اهلية طاحنة ..
باختصار، حتى لو كان هناك تغيير في الحكومة العراقية وإصلاح شامل لمؤسساتها السياسية، كما اقترح بعض السياسيين، فإن الاستقرار الدائم سيبقى بعيد المنال من دون اجراء تسوية اقليمية وتقليل المنافسة العربية الإيرانية والامر الأكثر أهمية هو تقليل حدة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران..
تطورت حركة الاحتجاج واخذ مسارات عدة، حيث بدأت بتظاهرات توسعت تدريجيا في الساحات العامة وفي عدة محافظات وسط وجنوب العراق، وايضا تطور الامر حتى وصل إلى نوع من انواع الاضراب الخاص لعدد من النقابات مثل نقابة المحامين والمعلمين والمهندسين وغيرهم. وهذه النقابات غير حكومية وتعبر عن مصالح فئات متعددة، ربما نشهد في المستقبل توقف كامل لمؤسسات الدولة كما يحصل الان في محافظة (بابل / الديوانية / المثنى)، وهذا قد يتطور لكل مؤسسات الدولة..