إنَّ اهتمام دونالد ترامب بالحرب الروسية – الأوكرانية، لم تدخل ضمن نطاق دوره الرئاسي، باعتباره رئيسًا للولايات المتحدة، وإنما كانت محور دعايته الانتخابية. إذ تعهد الرئيس الأمريكي المنتخب خلال حملته الانتخابية مرارًا، بإنهاء الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط. وتفاوتت تصريحاته بين تأكيده، بأنه لو كان رئيسًا، لما اندلعت هذه الحروب أساسًا، وتأكيده المستمر بأنه سيعمل على وقفها فور توليه السلطة. فمنذ اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022، استمرت الجهود الدولية في البحث عن حل سياسي، يمكنه إنهاء نزيف الدم ووضع حدٍ للخسائر العسكرية والاقتصادية التي تلقي بظلالها على موسكو وكييف وأوروبا بشكل عام. إلا أن هذه المرة جاءت المستجدات من واشنطن، إذ أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن ما وصفه بتقدم كبير، فيما يتعلق بالأزمة بين روسيا وأوكرانيا، بعد قمته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا. هذا الإعلان أثار موجة من التكهنات حول إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام شامل، يُنظر إليه كمفاجأة قد يقدمها ترامب للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي. إذ ترغب الإدارة الأمريكية بأنهاء حالة الحرب المستمرة بين البلدين منذ ما يقارب الاربعة سنوات، والتوصل إلى اتفاق سلام شامل يضمن لكل طرف مكاسب معينة مقابل تقديم تنازلات متبادلة. وتسعى إدارة ترامب بشكل واضح على إنهاء الحرب بشكل جذري، بالشكل الذي يعزز جهود واشنطن الدولية، ويزيد من حظوظ الرئيس الأمريكي في الفوز بجائزة نوبل للسلام، ولاسيما أن هذا الانجاز، يتوافق مع طموحات ترامب لتحقيق إنجاز دولي بارز، يعيد صياغة التوازنات العالمية، ويعزز صورة الولايات المتحدة، كقوة قادرة على لعب دور الوسيط الفاعل في إقناع الخصوم بالحوار والوصول إلى تفاهمات مشتركة. فهل ينجح الرئيس الأمريكي في أقناع الروس والأوكرانيين بأنهاء الحرب؟
بعد أيام من قمة بوتين وترامب في ألاسكا، وبالتحديد في 21 نوفمبر 2025، نشر موقع »أكسيوس« تفاصيل خطة سلام مؤلفة من 28 بندًا، وضعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بهدف إنهاء الصراع بين روسيا وأوكرانيا. تضمنت الخطة، مقترحًا يدعو أوكرانيا إلى التنازل عن منطقتي »دونيتسك ولوهانسك« في شرق البلاد لصالح روسيا، مقابل عودتها إلى مجموعة الثماني للدول الاقتصادية الأكثر تقدمًا. وهذا الشرط، كان جزءًا من مطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مكالمة هاتفية جمعته بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وكذلك أبرز ما احتوته خطة السلام، يتمثل في منع انضمام أوكرانيا لأي تحالفات عسكرية غربية، وخفض حجم الجيش الأوكراني إلى النصف، وذلك مقابل ضمانات أمنية أمريكية لم تُحدد تفاصيلها بعد. إذ تشير بعض وسائل الإعلام إلى أن الخطة تركز أغلبها على إعادة ترتيب المشهد الأمني في أوكرانيا، وحظر امتلاك أسلحة بعيدة المدى أو صواريخ قادرة على استهداف العمق الروسي، كما تتضمن تثبيت السيطرة الروسية على أجزاء من شرق أوكرانيا، ومعاملة شبه جزيرة القرم كجزء لا يتجزأ من روسيا. بموازاة ذلك، تتحدث الخطة أيضًا عن تعهد الولايات المتحدة بتوقيع اتفاقيات أمنية مع أوكرانيا، بما يضمن استقلالها وسلامة أراضيها، على الرغم من إن طبيعة هذه الضمانات ما تزال غير معلنة.
إنَّ اهتمام ترامب بالحرب الروسية – الأوكرانية، واندفاعه الكبير في انهاء الحرب، قد لا يفضي إلى حلول سريعة، أو استجابة من قبل الأطراف المعنية في الصراع، ولاسيما اوكرانيا التي تبدو في موقف اضعف من روسيا. وحتى وأن افضت إلى حلول، فأنها لا تفضي إلى حلولًا منصفة للأطراف المتحاربة جميعًا. فربما لا ينظر الرئيس الأمريكي إلى عواقب خطة السلام على أوكرانيا وأوروبا، بقدر نظرته في تحقيق اقناع الجانب الروسي بوقف الحرب. فالرئيس الأمريكي، يبدو منزعجًا من عدم تحقيق تقدم ملموس بوقف الحرب ويريد إبرام صفقة انهاء الحرب باقل تكلفة وسرعة ممكنة؛ لذلك فهو لا يهتم كثيرًا بالشروط أو التداعيات الأوسع، سواءً على المدى القصير أو الطويل. وهذا ما قد يزيد الضغط على الطرف الأضعف. والطرف الأضعف، بالطبع، هو أوكرانيا. وهناك من يعتقد بأن ضعف زيلينسكي يجعل تقديم التنازلات أكثر صعوبة، وليس سهولة. فبينما تكشف استطلاعات الرأي الأخيرة، أن ربع الأوكرانيين فقط يفضلون الاستمرار في القتال حتى تحقيق النصر الكامل، وهو تحول كبير مقارنة بسنوات الحرب الأولى، تظهر الاستطلاعات ذاتها، أن الغالبية ما زالت تتمسك بإنهاء الحرب بشروط أوكرانية لا روسية. وحتى لو أراد ذلك، فإن زيلينسكي، الذي يعاني من هشاشة سياسية، لا يملك القدرة على تأييد صفقة تشبه الاستسلام، إذ ستكون محل رفض ساحق من شعبه وجيشه. ويعتقد أغلب الاوكرانيين أن مجرد كون موسكو هي الطرف الأكثر ارتياحًا للخطة، يعد دليلًا على أنها غير متوازنة، ومصممة لترجيح كفة طرف على حساب الكفة الأخرى. فأوكرانيا تواجه نصًا لم تُشارك في صياغته، ويُطلب منها القبول بتقليص جيشها ونزع أسلحتها الغربية وتثبيت خسائرها الإقليمية. وهذا يعيد إلى أذهان الأوكرانيين تجربة »مذكرة بودابست« التي تخلت فيها أوكرانيا عن ترسانتها النووية مقابل ضمانات بدت قوية على الورق، لكنها انهارت عند أول أزمة. على الرغم من أن »اتفاقية بودابست« تعرف بأنها معاهدة دولية وُقعت في 5 ديسمبر/كانون الأول 1994 في بودابست بين أوكرانيا، وروسيا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وتتعلق بنزع السلاح النووي الأوكراني والضمانات الأمنية لاستقلال أوكرانيا. بموازاة ذلك، تدرك روسيا، أنها تتمتع بموقف أقوى، ولا تبدي رغبة في تقديم تنازلات، تتيح الوصول إلى شروط تقبلها أوكرانيا. على العكس من ذلك، يعتقد الرئيس فلاديمير بوتين، أن إنهاء الحرب ليس أولوية، معتمدًا على تصوره، بأن تحقيق أهدافه ممكن بشكل أكبر عبر المعارك الميدانية، بدلًا من المفاوضات. وقد أحرزت القوات الروسية تقدمًا بطيئًا وشاقًا في منطقة دونباس. ورغم الثمن الباهظ المتمثل في آلاف القتلى، والضغوط الاقتصادية الهائلة، والعزلة الدولية المتزايدة، أبدى بوتين استعدادًا لتحمل هذه التكاليف، واثقًا أن عامل الوقت يصب في مصلحته. ولعل الرئيس الروسي، يعمل على نفاذ صبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن طريق طرحه، نقاط حساسة ومتطرفة، لا يمكن لأوكرانيا أن تتقبلها. فعلى سبيل المثال، يعلم الرئيس الروسي جيدًا، بأن أوكرانيا لا يمكنها القبول بالاعتراف القانوني بضم روسيا للأراضي، والحياد الأوكراني دون ضمانات أمنية ذات معنى، وفرض قيود فعالة على سيادة أوكرانيا. إذ تبدي روسيا تعاونًا في ملف المفاوضات مع القادة الأوروبيين، على امل أن تحَّمل الولايات المتحدة، أوكرانيا مسؤولية الفشل الدبلوماسي الحتمي، وأحداث انقسام أكبر داخل حلف الناتو. فضلًا عن ذلك، أن تأثير الولايات المتحدة الأمريكية على أوكرانيا لم يعد كما كان، وأن ترامب لم يعد يتحكم بشريان الحياة لأوكرانيا؛ فالولايات المتحدة تبيع الأسلحة وتقدم المعلومات الاستخباراتية، لكن الدول الأوروبية تُموّل الآن المجهود الحربي الأوكراني بالكامل. وهذا يُضعف بشكل كبير نفوذ واشنطن، ويقلل من حظوظ قبول مبادرة الرئيس الأمريكي من قبل الاوكرانيين، ولاسيما أذا ما كانت بنود المبادرة قاسية على الجانب الاوكراني، أو أن لم تحتوي المبادرة على ضمانات كافية لردع اطماع الروس المستقبلية في أوكرانيا.
بالمجمل، لا تبدو جهود الرئيس الأمريكي في أنهاء حالة الحرب بين الروس والأوكرانيين، مثمرة لحد الآن، وعلى ما يبدو لن تثمر حتى في الايام القادمة، مالم يصل الطرفان إلى قناعة تامة بالحلول السلمية، ففي الوقت الحالي، يحاول كلا الطرفين الاستمرار في حالة الحرب، ولاسيما الجانب الروسي، وستواصل القوات الروسية محاولاتها للسيطرة على المزيد من الأراضي الاوكرانية، بينما ستستمر أوكرانيا بالدفاع عن نفسها وتحاول تكثيف هجماتها على البنية التحتية الروسية. فما دامت الاهداف الجوهرية متقاطعة بين الطرفين، لن يجدي أي ضغط خارجي او دبلوماسي نفعًا في سد الفجوة، إلا عندما تجبرهم ساحة المعركة والظروف المادية. لهذا من الصعب أن تحقق جهود الرئيس الأمريكي نجاح دبلوماسي بهذا الجانب، قبل أن يصل الطرفين إلى قناعة تامة بوقف الحرب.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!