عوامل تقدم الدول وانحطاطها - 2

عوامل تقدم الدول وانحطاطها - 2
ان دراسة الثقافة السائدة في أي دولة قادرة على استشراف مستقبلها بدقة عالية، ومعرفة مسار تقدمها او انحطاطها، بل ومعرفة ما يناسبها من انماط الحكم، والقيادة...ولذا قيل قديما كيفما تكونوا يولى عليكم؛ فالثقافة العامة المسيطرة على الناس هي المصنع الذي يلد هذه الانماط، وفي نفس الوقت تتحمل هذه الأنماط مسؤولية استمرار هكذا ثقافة، عندما تكون القيادات قصيرة النظر، وفاشلة في قيادة التحولات الثقافية المطلوبة، والاسوأ يحدث عندما تجد منافعها ببقائها، ولذا قيل كيفما يكن الراعي تكن الرعية

ان العامل الحاسم الثاني في تقدم الدول وانحطاطها هو الثقافة السائدة والمسيطرة على الفضاء الفكري والسلوكي لدى الناس، بما تنطوي عليه من منظومة قيم واخلاق تشكل عاداتهم وتقاليدهم، وتؤثر تأثيرا بالغا في تفضيلاتهم، وتوقعاتهم، وتصوراتهم، وما يحبون ويكرهون. فالثقافة تمثل روح المجتمع وعصارة تجاربه وخبراته، وهي تحمل داخلها عناصر الخلق والابداع او عناصر الجمود والهدم. 

ويمكن الاستدلال على سلبية وإيجابية التأثير الثقافي في المجتمع من خلال مظاهر عديدة، لعل أبرزها كيفية تعامل افراد المجتمع مع ماضيهم، فالمجتمعات الناضجة غالبا ما تستفيد من تجارب الماضي، والتاريخ بالنسبة لها ليس حلقة مفرغة تدور فيها، بل هو سلسلة متصاعدة من الفهم والادراك والتعلم. ولذا تحرص اجيالها اللاحقة على اخذ العبرة من اجيالها السابقة؛ لتجنب الوقوع فيما وقعت فيه من أخطاء في المواقف والقرارات والعلاقات وتقدير الحسابات، فهي دائمة التعلم والتطور، وعارفة بما ينبغي فعله لبناء نموذجها الحياتي الناجح المناسب لعصرها. اما المجتمعات المتخلفة، فتجدها أسيرة الماضي، وغالبا ما تكرر أخطاء اسلافها بدون وعي او إدراك، فهي فاشلة في اخذ العبرة من دروس التاريخ، ويسودها الجمود وكأنها مصابة بشلل في الوعي، كتلميذ دخل مرحلة دراسية معينة وعلق فيها بقية حياته، ليكون حظه من العلم والتعلم هو حدود هذا المرحلة لا غير، متجاهلا أهمية انتقاله منها الى مراحل أخرى أكثر تقدما ونفعا. 

وعليه، تكون المجتمعات الناضجة خلاقة وقادرة على التكيف مع المتغيرات الجديدة التي تحيط بها، فلا تكرر تجارب الماضي الفاشلة، وصراعاته، وعداواته، وما جرتها من مآسي وكوارث. بينما المجتمعات المتخلفة فتبقى بدائية، وغارقة في نفس دوامة الصراع والكراهية والوعي الذي عاش فيه اسلافها، ومن الأمثلة الشائعة للتفريق بين هذه النوعين من المجتمعات ما نراه اليوم فيما يتعلق بطريقة التعامل مع قضية الاختلافات الدينية والاثنية، فالمجتمعات الناضجة عبرت حدودها الثقافية الضيقة وجعلت تنوعها الثقافي مصدرا من مصادر قوتها، بينما جعلتها المجتمعات المتخلفة منطلقا لبث الكراهية والصراع والاحتراب فيما بينها، وكأنها تدور في حلقة لا نهائية من العنف والعنف المتبادل، الذي عاشه السلف ولم يتحرر من أسره الخلف.

ومن مظاهر التأثير الثقافية -أيضا- علاقة الانا بالآخر، فالانا في المجتمعات الناضجة متصالحة مع نفسها، منفتحة ايجابيا على غيرها، وهي والآخر ليسا طرفين في علاقة صراعية متبادلة قائمة على الخوف والعداء والكراهية والرغبة بالإخضاع والهيمنة، بل هما طرفان يكتمل وجود كل منهما بوجود الآخر. ولذا ترى الهويات الفرعية في هذه المجتمعات لا تقتتل مع بعضها، وما يشذ عن هذه القاعدة هو تصرف فردي قابل للسيطرة عليه، ومحاربته بقوة القانون، وتكون الغلبة واضحة لهوية الدولة الجامعة، تلك الهوية التي تشكل الوعي الجمعي للأفراد، فتربطهم بدولتهم بروابط قوية من الحب والولاء والشعور بالمسؤولية، لتعطي الانطباع النهائي عن قوة الدولة ووحدة وتماسك شعبها. 

وعلى العكس من ذلك تجده في المجتمعات المتخلفة حيث تكون علاقة الانا بالآخر علاقة عداء وصراع موروث، لا يكفي للجمه مقولات الحكماء، كمقولة "ان الاخر اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق"؛ كونها مجرد مقولات ترددها الالسن دون ان تفقهها العقول، او تؤمن بها القلوب، ولذا يشكل أي استفزاز او سوء فهم بين الانا والأخر سببا كافيا لإشعال نار الكراهية والاقتتال بين الطرفين، وهذا ما نراه اليوم في الصراعات العشائرية، والطائفية، والدينية، والعرقية، والحزبية... التي تعاني منها كثيرا من الدول، والتي اضعفت شوكتها وتسببت لها بعدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي.

إضافة الى ما تقدم، يبرز تأثير العامل الثقافي في طريقة التعامل مع الاختلافات في وجهات النظر داخل المجتمع، فهذه الاختلافات تمثل وقود الحياة، ومنطلق البشر لتغيير قناعاتهم، وإيجاد الحلول الملائمة لكثير من القضايا والمشاكل والازمات، ولولا ذلك لبقي الناس قابعين في كهوف اجدادهم الذين عاشوا في حقبة ما قبل التاريخ. 

ان المجتمعات الناضجة تواجه اختلافاتها بمنطق الحوار، والميل الى الوحدة، وقبول الرأي الاخر، والتسامح والثقة بين افرادها. اما المجتمعات المتخلفة فتجعل اختلافها مبعثا للفتنة، والصراع، والتسور حول الرأي ضد الرأي الاخر، فهي غير معتادة ثقافيا على الاعتراف بالخطأ والتنازل لصالح الرأي الصائب. ولذا تجدها نافرة من قبول الحق، والاعتراف بحقائق العلم. وممتلئة بالشك، فترى كل من يخالفها الرأي عدوا يضمر لها الشر. وهذه الطريقة في التعامل مع الاختلاف في وجهات النظر لا تبني اجماعا وطنيا، وتعمل دائما على تغذية قيم الطمع، والنرجسية، والحسد، والانانية، وحب الجدل...ولذا يسود مجتمعها الشقاق والنزاع والزيغ، وهي كما يقال من شُعب الكُفر التي تدمر المجتمعات، وتبث فيها الانقسام والتشظي، لاسيما عند تعلقها بغنائم السلطة، والثروة، والنفوذ الاجتماعي. والدول التي تسودها هكذا ثقافة غالبا ما يزول أثرها، وتندثر قوتها، ولعل أفضل مثال يمكن سوقه هنا هم بنو إسرائيل، اذ كانوا في القرن العاشر قبل الميلاد قوة مرهوبة الجانب، عندما حكمهم النبي داوود وابنه سليمان، ولكن بعد موت سليمان سنة 931 قبل الميلاد سادهم الانقسام والشقاق والصراع على القيادة والسيطرة، بعيدا عن معايير العلم والحق، فكان مصيرهم الضعف والاضمحلال والاذلال التاريخي. وقد حصل الامر نفسه في بلادنا الإسلامية، سواء في عصورها الوسطى تحت حكم امراء الطوائف، او في وقتنا الحاضر. 

 خلاصة ما تقدم، يمكن القول: ان دراسة الثقافة السائدة في أي دولة قادرة على استشراف مستقبلها بدقة عالية، ومعرفة مسار تقدمها او انحطاطها، بل ومعرفة ما يناسبها من انماط الحكم، والقيادة...ولذا قيل قديما كيفما تكونوا يولى عليكم؛ فالثقافة العامة المسيطرة على الناس هي المصنع الذي يلد هذه الانماط، وفي نفس الوقت تتحمل هذه الأنماط مسؤولية استمرار هكذا ثقافة، عندما تكون القيادات قصيرة النظر، وفاشلة في قيادة التحولات الثقافية المطلوبة، والاسوأ يحدث عندما تجد منافعها ببقائها، ولذا قيل كيفما يكن الراعي تكن الرعية، فالترابط وثيق للغاية بين القيادة السياسية والثقافة السائدة، ولا يمكن انتاج قيادة سياسية جيدة مع وجود ثقافة مسيطرة متخلفة، كما لا يمكن تغيير هذه الثقافة مع وجود قيادة سياسية تعمل على استدامتها وترسيخها. 

أ. د. خالد عليوي العرداوي

أ. د. خالد عليوي العرداوي

العراق-كربلاء المقدسة

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!