تشكل البنية الاجتماعية والاقتصادية العامل الثالث المهم، وإن كان غير الحاسم دائماً، في تحديد مسار تقدم أو انحطاط الدولة؛ كونها تعد غالبا عاملا مساعدا للعاملين السابقين (القيادة السياسية، والثقافة العامة السائدة). وترتبط البنية الاجتماعية بنوعية الفواعل والعلاقات التي تكون وعي وهوية الافراد بأنفسهم وغيرهم. فالمجتمعات التقليدية الابوية التي تبرز فيها الروابط الاولية كالعشيرة والقبيلة والدين والطائفة والعرق القومي كفواعل أساسية، عندما تخضع لقيادة سياسية فاسدة، وتؤطرها ثقافة عامة غير صالحة يمكن بسهولة استغلالها والتحكم بمصيرها، لأن الرأي العام داخلها قائم على الوعي الجمعي، الذي يلعب قادة الروابط الاولية دورا محوريا في تشكيل معالمه. ولذا تبدأ سيطرة القيادة السياسية على هذه المجتمعات بالسيطرة على قادتهم الاجتماعيين الفاعلين سواء بالإغراء ام بالإكراه، فهي تعلم ان الافراد سيتبعون رأي قادتهم، حتى لو كان لهم رأي مختلف؛ بسبب العادة، والتكلفة الاجتماعية الباهظة للخروج عن رأي الجماعة. فضلا عن ذلك، فان القيادة السياسية -غالبا- ما تحتمي بواحد من هذه الروابط الأولية لقمع بقية الروابط، وتستفز عصبيتها الضيقة لمصلحتها بحجة حماية هويتها الخاصة في مواجهة تهديد الهويات الأخرى، وهذا ما فعلته كثير من الدول التي سارت في مسار الانحدار والتدهور قديما وحديثا. ولعل أبرز الأمثلة التاريخية على ذلك هي قصة فرعون مع قومه، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: " فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" (الزخرف:54)، ولا يمكن فهم نجاح فرعون في استثارة قومه ضد موسى وقومه الا بادراك عميق لقوله تعالى: " فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ. إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَشِرۡذِمَة قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَآئِظُونَ. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَٰذِرُونَ" (الشعراء: 53-56).
لقد استغل فرعون عصبية قومه ووعيهم البدائي في تعبئة مشاعر الخوف والكراهية ضد موسى وقومه، لجعلهم طوع امره، الا ان رأيه القاصر كانت نتيجته موته، وتدمير جيشه، وخراب دولته. وهذا التوجه الفرعوني القائم على تأجيج العداء والكراهية الاثنية والعرقية بين أبناء المجتمع الواحد لا زال مستمرا وتعمل به القيادات السياسية السيئة عبر التاريخ، ومن الأمثلة المعاصرة عليه هو ما جرى في دول عديد، مثل: العراق وليبيا وسوريا ولبنان واليمن والسودان ورواند وبورندي وماينمار، وغيرها من الدول التي دفعت ثمناً باهظاً لتسييس هوياتها الفرعية من قبل قياداتها السياسية.
ان نجاح القيادات السياسية الفاسدة في تطويع المجتمع يمكن ان يكون محدودا او معدوما لو كانت البنية الاجتماعية مدنية حقا، وتحكم علاقات الافراد قيم المواطنة، والتمدن، وسيادة القانون، والكفاءة قبل القرابة في القيادة وتحمل المسؤولية، وتشكيل الرأي العام من خلال الوعي الحر للأفراد بعيدا عن الطاعة الابوية العمياء للفواعل الاجتماعية التقليدية.
اما البنية الاقتصادية فترتبط بطبيعة الاقتصاد، من حيث وسائل وعلاقات الإنتاج، فالدول التي تعتمد على الاقتصاد الزراعي او النمط الريعي غالبا ما تكون شعوبها أسهل انقيادا، اما بسبب طبيعة علاقات الولاء، والاحساس المفرط بالعصبية الفرعية المرافق للاقتصاد الزراعي، مما يساعد القيادة السياسية في فرض الطاعة والخضوع على الافراد. واما بسبب عدم حاجة هذه القيادة للأفراد في دعم موازناتها المالية، وتحكمها بأرزاق شعبها بواسطة الإيرادات الريعية التي تحصل عليها. على عكس الحال في الدول ذات الاقتصاد الرسمالي الحديث، التي غالبا ما تجد حكوماتها نفسها مضطرة الى التنازل، وتقديم أفضل أداء وخدمات لإفراد المجتمع، لأن إيرادات موازناتها السنوية تعتمد على الضرائب المفروضة عليهم.
ولكن ينبغي هنا الحذر من إطلاق حكم نهائي حول هذا الموضوع، فدور البنية الاقتصادية لا يقتصر على ما تقدم (اقتصاد زراعي-ريعي ام رأسمالي صناعي)، بل يرتبط -أيضا- بقدرة الاقتصاد على تحقيق معايير العدالة الاجتماعية لتقليل الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وتوفير العدالة في التوظيف وفرص العمل، والتخفيف من حدة البطالة، والشعور بالأمان المعيشي... ولذا تجد مثلا ان الاذلال القومي، والتدهور الاقتصادي، وانتشار الفقر والبطالة كانت عوامل مهمة عجلت في سقوط المانيا الصناعية بيد الحزب النازي بعد الحرب العالمية الأولى، هو ما يؤكد أن الحداثة الصناعية وحدها لا تمنع الانحطاط إذا غابت العدالة الاجتماعية. كما تجد اليوم ان كثيرا من الدوافع الباعثة على الاحتجاج ضد الحكومات، والارتماء بأحضان الشعبوية والأفكار اليمينية المتطرفة في الغرب الرسمالي سببها البطالة، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والاحساس المتزايد بغياب العدالة الاجتماعية... وإذا ما استمرت هذه المؤشرات بالتصاعد فقد يكون تقدم الدول هناك مجرد لحظة فارقة في تاريخها قبل سقوطها مجددا في فك التدهور والانحطاط.
ان البنية الاجتماعية التقليدية، والاقتصادية البدائية يمكنها المساهمة بشكل كبير في دعم مساعي القيادات الفاسدة في التحكم بالمجتمع والدولة؛ لما توفره من عناصر عديدة يمكن استغلالها لتحقيق مآرب واهداف هذه القيادات، وغالبا ما يشير وجودها الى ذهاب الدول نحو الانحطاط وأحيانا الزوال. ولكن عندما تتوفر قيادات سياسية فذة، وذات ارادة صلبة، وحكمة كافية، ورؤية استراتيجية بعيدة، عندها يمكن تطويع هذه البنية وتجاوز تأثيرها السلبي لتحويل دول ضعيفة ومتخلفة الى دول قابلة للتطور والتقدم، وهذا ما شهدته قديما بابل وروما واثينا وغيرها. وتسمى عملية التطويع للبنية الاجتماعية والاقتصادية في الوقت الحاضر بهندسة المجتمع والاقتصاد، تلك الهندسة التي حولت دول مثل الصين، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وقطر، والامارات العربية المتحدة، وغيرها من الدول الى فواعل دولية مؤثرة وجديرة بالاحترام.
خلاصة القول: ان عوامل تقدم الدول وانحطاطها تولد من داخلها، قبل ان تفرضها عليها قوى خارجية. والدول التي تتعلل بوطئة القوى الخارجية لتبرير عدم تقدمها هي دول ما زالت تفتقر الى القدرة على التحرر من عيوبها الداخلية، وتتنازع السيطرة عليها قيادات سياسية فاشلة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!