إن التظاهرات العراقية، التي انطلقت في بداية تشرين الاول من العام الماضي، او ما تسمى اليوم بثورة او انتفاضة تشرين "بغض النظر عن دقة الوصف والتسميات"، ربما تعد من اشجع واشرس حركات الاحتجاج في تاريخ العراق الحديث، ولاسيما بعد عام 2003، ليس بسبب مقاومتها القمع المفرط من قبل القوات الأمنية والفصائل والاحزاب، أو بسبب ديمومتها وعدم انقطاعها عن التظاهر والاحتجاج، وإنما لكسرها قواعد الخوف التي تحتكرها المؤسسات الموازية للدولة وشراسة المنافس، وتمردها على تعدد سلطات القرار العراقي، بأطرافه المختلفة الداخلية والخارجية (الرسمية وغير الرسمية)، ومقاومتها لكل حركات التسقيط والتشويه التي اطلقتها الاطراف المنتفعة من الوضع القائم. نعم، قد تكون انتفاضة تشرين، حركة احتجاج غير منظمة وليس لها قيادات واضحة، تمّكنها من مجاراة القوى والاحزاب السياسية المتنفذة في العملية السياسية العراقية، لكنها حركة احتجاجية قوية، وضعت الحكومة العراقية وقواها السياسية والسلطات الموازية لها في موقع دفاعي لأول مرة منذ عام 2003؛ لأن كل الحركات الاحتجاجية التي سبقت انتفاضة تشرين، كانت تدور في دائرتين: أما حركة احتجاجية غير مؤثرة، كتلك الوقفات الاحتجاجية التي كانت تنّظم من قبل بعض المدنيين والعلمانيين والشرائح المثقفة في ساحة التحرير بعد عام 2011، أو تلك الحركات الاحتجاجية المنظمة والكبيرة التي كان يتظاهر بها أنصار التيار الصدري في الاعوام 2015-2016 ، إلا أن كلاهما فشل في مسعاه قياساً بثورة أو انتفاضة تشرين؛ وذلك لأن الاحتجاجات الأولى، كانت تتميز بقلة عددها ومحدودية تأثيرها، اما الثانية، فكانت تدور في فلك العملية السياسية وغير جادة في قلب الموازين السياسية لصالح جماهيرها أو للصالح العام؛ لأسباب عدة، لسنا بصدد ذكرها الآن. نتيجة لذلك، هناك الكثير ممن يتسائل عن دينامية انتفاضة تشرين ومستقبلها الاحتجاجي، وهل بالفعل نجحت في مسعاها ام فشلت، وما هي اسباب تراجعها...؟
حقيقة الأمر، قد لا نملك الاجابة الوافية بمعطيات كاملة عن كل الأسئلة السابقة، إلا أننا نستطيع أن نقول، بان انتفاضة تشرين، نجحت لحد الآن على الرغم من خيبات الأمل التي تعرضت لها، وان دلائل ومؤشرات نجاحها كثيرة وكبيرة، وتأتي في مقدمتها (اقرار قانون انتخابات جديد، استبدال مفوضية الانتخابات، الإطاحة بحكومة عادل عبد المهدي، احراج القوى والاحزاب ووضعها في موضع دفاعي، توجيه الرأي العام الداخلي والخارجي، تضامن الدول والرأي العام والمنظمات الأممية ومنظمات المجتمع المدني معها، تهذيب بعض سلوكيات القوى والاحزاب السياسية العراقية، وكسر قواعدها التقليدية في تشكيل الحكومات، ولفت الانظار إلى الدور الإيراني في العراق، فضلاً عن تحديد موعد محدد للانتخابات المبكرة)، إلا أنها، ورغم كل ذلك، قد تعرضت إلى انتكاسات كبيرة حجّمت من حركتها وديمومتها بشكل كبير، ولعل أهم تلك الانتكاسات التي أثرت في دينامية انتفاضة تشرين هي:
أولاً- مقتل سليماني والمهندس (ضربة المطار): هذه الحادثة التي رقص لها المحتجون فرحاً؛ لأسباب تتعلق بطبيعة الدور الإيراني في العراق ودعمه للطبقة السياسية الحاكمة ضد تطلعات الشعب العراقي، كانت الانتكاسة الأولى في جسد انتفاضة تشرين، لأسباب كثيرة، قد يكون الانقسام المجتمعي وتفاعل قطاعات واسعة من المجتمع الشيعي مع الحادثة، وتحميل المحتجين اضعاف الدولة ومسببات الضربة، من خلال حراكهم الجماهيري، الذي اضعف المؤسسات الأمنية "برأي البعض" وشغلها عن أداءها الأمني وجعلها محط انظار العالم أجمع؛ بسبب القمع الممنهج الذي مارسته تلك القوات ضد المحتجون، ولاسيما أن المناهضين لحركة الاحتجاج يمتلكون (المال، السلاح، السلطة والإعلام)، فضلاً عن الدعم الخارجي. هذه الحادثة، مهدت لمواقف لاحقة، أثرت سلباً في مسار حركة الاحتجاج، ولعل أبرزها موقف زعيم التيار الصدر ي منها.
ثانيا-موقف السيد مقتدى الصدر: لا يخفي لا أحد بأن كل القوى السياسية واطرافها أو أذرعتها (الداخلية والخارجية) كانت تخشى مواقف التيار الصدر من انتفاضة تشرين، وبالفعل مّثل السيد الصدر وتياره جدار صد أمام القوى والفصائل التي تريد ان تبطش بالمحتجين. وعلى الرغم من أن بعض المواقف التي واكبت حركة الاحتجاج بشأن موقف السيد الصدر وتياره الشعبي، تراوحت بين الرفض والقبول، إلا أن يمكن اعتبار موقف الصدر، موقفاً إيجابياً اتجاه حركة الاحتجاج حتى حادثة ضربة مطار بغداد، التي قلبت المشهد في موقف السيد مقتدى الصدر، وما رافقه من تداعيات واتفاقات مع بعض القوى والفصائل المسلحة في السيطرة على حركة المحتجين، التي بدأت بوادرها تتضح بعد المظاهرات التي دعا لها السيد الصدر في منطقة الجادرية ‘‘وسط العاصمة بغداد‘‘؛ لتنظيم الجهود وطرد القوات الأمريكية بالتوافق مع الفصائل والاحزاب الموالية لطهران، وتشكيل تنظيم ما يسمى بالمقاومة الدولية، بزعامة مقتدى الصدر؛ للغرض ذاته. هذه المواقف مجتمعةً أثرت بشكل كبير على حركة الاحتجاج، لاسيما موقف السيد الصدر، الذي يعد بمثابة (القشة التي قصمت ظهر البعير)؛ وذلك بسبب حالة الشرخ الكبيرة التي احدثها موقفه وأتباعه من المحتجين بعد تلك الحادثة، والمواجهات والاتهامات التي حدثت بين أنصاره من جهة والمحتجين من جهة أخرى، فضلاً عن انكشاف ظهور المحتجين أمام الاحزاب والفصائل والقوات الأمنية، بعد انسحاب انصار التيار الصدري من ساحات التظاهر؛ مما عّرض الحركة إلى هزة قوية، إلا أنها لم تتأثر من حيث العدة والعدد بهذا الانسحاب بشكل كبير، وجميعنا يتذكر الاعداد الكبيرة التي خرجت للمشاركة في الاحتجاجات في اغلب المحافظات، رداً على موقف السيد الصدر وتياره بعد انسحابهم من ساحات التظاهر.
ثالثاً: تفشي وباء كوفيد 19-: إن تفشي فيروس كورونا في العراق، يعد من الاسباب الرئيسة، أن لم يكن السبب الاساس في تقويض حركة انتفاضة تشرين، وهو ذات السبب الذي اسعف القوى والاحزاب السياسية من تداعيات هذه الانتفاضة، التي احرجت الحكومة واطرافها (الرسمية والموازية)، إذ ما زالت تلك القوى تراهن على تفشي الوباء في اعاقة حركة الاحتجاج وإعادة انطلاقها مرة ثانية، ولاسيما أن اغلب الساحات لا يزال يمسكها بعض المتظاهرين، الذين سيعاودون حراكهم في بداية شهر تشرين الأول/ اكتوبر القادم، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى؛ لانطلاق ثورتهم ضد الفساد والظلم والتدخلات الخارجية.
رابعاً-أسباب أخرى: هناك الكثير من الاسباب الثانوية التي رافقت حركة الاحتجاج منذ انطلاقتها الاولى في 1تشرين الاول/ أكتوبر من العام الماضي، وجعلتها فريسة سهلة للمتصيدين بها، ولعل أهم تلك الاسباب، غياب التنظيم الحقيقي، وعدم وضوح الهدف الأساس من الحراك هل هو احتجاج لتحسين واقع الخدمات ام حراك من اجل تغيير النظام أو تحسين اداءه...؟ كذلك من الاسباب المهمة التي اضعفت الحراك، عدم تمكن المحتجين من تشكيل قيادة سياسية او جماهيرية له، من شانها أن تكون قادرة على التواصل والتفاوض مع الحكومة والقوى السياسية، فضلاً عن ذلك، فأن هناك بعض الشوائب الاخرى التي انتابت الحراك الجماهيري واقتحمته وحاولت تسقيطه، كـ (المندسين والفوضويين والمتسللين والباحثين عن قضاء الوقت للتسلية دون أي هدف)؛ مما جعل ساحات التظاهر، مكشوفة الظهر أمام الاحزاب والقوى الموازية، التي كان لها الدور الكبير في اختراق تلك الساحات.
بالمجمل، يمكننا القول، بأن هذا الاسباب مجتمعة أثرت كثيراً في الحراك الشعبي، وافقدته حيويته ونشاطه المفترض، إلا أنها لم تنهيه بشكل كامل، فالحراك ما يزال موجود، وقد يتدفق وبقوة في أي لحظة، ولاسيما أذا ما انتهى الوباء، وربما سيتحدى الوباء في شهر تشرين الاول القادم، وقد يحرج الحكومة والعملية الديمقراطية او السياسية بشكل عام، أن لم تكن هناك خطوات جدية من قبل حكومة السيد الكاظمي والبرلمان العراقي في استكمال قانون الانتخابات، والكشف عن قتلة المتظاهرين ومحاسبتهم، والاستعداد الحقيقي للانتخابات المبكرة، وقطع الطريق على القوى والاحزاب في استغلال المال العام والسلطة في الدعاية الانتخابية او في الانتخابات القادمة، وتشديد الصرامة على عمل المفوضية ومراقبة نشاط الاحزاب في استغلال اصوات الفقراء والمعدمين، وتهيئة البيئة اللازمة والمناسبة "الفعلية" لإجراء الانتخابات المبكرة، سواء بإجراءات حصر السلاح بيد الدولة أو منع الاحزاب من استغلال سطلتها والمال العام في نشاطها الانتخابي القادم، والعمل على أن تكون الانتخابات تحت أشراف أممي، بعكس ذلك، ستكون الانتخابات المبكرة شانها شان العمليات الانتخابية القادمة، وبدون أي جدوى حقيقية، وسنبقى ندور بنفس الدائرة.