في السنوات الاخيرة أصبح سعر الصرف يتصدر الحلول التي يمكن ان تتخذها الحكومة لمعالجة الاختلالات المالية الناجمة عن انخفاض الايرادات النفطية. حيث يعتمد الاقتصاد العراقي بشكل عام والموازنة بشكل خاص على النفط، بشكل كبير؛ مما جعلهما يتأثران بسرعة لتغيرات اسعار النفط سلباً وايجاباً. هذا التأثر يلقي بظلاله على سعر الصرف بشكل وآخر، وينعكس على الحياة الاقتصادية بشكل عام.
ما هو سعر الصرف وكيف يتحدد؟
سعر الصرف هو عدد وحدات العملة الوطنية اللازمة لشراء وحدة واحدة من عملة أجنبية.
هناك ثلاثة طرق رئيسية لتحديد سعر الصرف وهي:
1- التعويم، أي ترك سعر الصرف يتحدد وفقاً لتفاعل قوى السوق(العرض والطلب) دون تدخل الدولة.
2- الثابت، أي ان سعر الصرف يتحدد وفقاً لتدخل الدولة عبر البنك المركزي، ويكون مستقر كما هو حال الريال السعودي (1 دولار= 3.75 ريال)
3- التعويم المُدار، أي ان سعر الصرف يتم تحديده من قبل قوى السوق والبنك المركزي معاً لتحقيق الاستقرار والمرونة، كما هو الحال في الدينار العراقي.
سعر الصرف في العراق
لم يعتمد العراق التعويم وذلك لوجود تدخل واضح للبنك المركزي في تحديد سعر الصرف، كما انه لم يعتمد السعر الثابت بشكل خالص لعدم وجود سعر واحد وتغيير السعر الرسمي أكثر من مرة ووجود سوق موازي.
بمعنى ان العراق يعتمد بشكل كبير التعويم المُدار لتحديد سعر الصرف، من خلال تحديد السعر الرسمي للدولار وضخ الدولار يومياً في السوق لأجل الحفاظ على استقرار سعر الصرف.
حيث حدد البنك المركزي سعر الصرف الرسمي في آخر تعديل عام 2023 السعر بـ 1320 لكل دولار وبالمقابل يدخل كبائع لملايين الدولارات عبر نافذة العملة للحد من ارتفاع سعر الدولار الموازي الذي يتراوح حالياً- كانون الاول 2025- بين 1410 – 1430 دينار لكل دولار.
بمعنى ان سعر الصرف في العراق يتحقق من خلال المزج بين البنك المركزي والسوق.
عدم التكافؤ بين البنك المركزي والسوق
وبهذا الصدد تجب الاشارة الى ان سعر الصرف يتحدد كنتيجة تفاعل غير متكافئ بين البنك المركزي والسوق.
أي ان تأثير البنك المركزي والسوق على سعر الصرف غير متساوي، حيث يسيطر السوق تارة ويسيطر البنك المركزي عليه تارةً أخرى.
إذ في الغالب ان السوق يدفع السعر نحو الارتفاع بحكم زيادة الطلب على الدولار نتيجة زيادة الاستيرادات والتوقعات الاقتصادية بارتفاع سعر الدولار واسباب أخرة تتعلق بالتهريب وغسيل الاموال والقيود الدولية وضعف المصارف.
وفي المقابل يسعى البنك المركزي لفرض سيطرته على السعر عبر نافذة العملة والاحتياطيات الاجنبية التي بحوزته والرقابة المشددة وغيرها من الاجراءات التي تقلل الطلب على الدولار.
ومع عدم التكافؤ يبقى سعر الصرف ضمن هامش السيطرة النقدية أي انه لم يخرج عن سيطرة البنك المركزي، وظل الاخير ماسك بالدولار من الارتفاع للحفاظ على قيمة الدينار، وتحقيق التوزان النقدي.
أثر ضعف الاقتصاد الحقيقي
ان عدم التكافؤ بين البنك المركزي والسوق في تحديد سعر الصرف يجرنا للمشكلة الجوهرية المتعلقة في اساسيات الاقتصاد الحقيقي.
حيث ظل الاقتصاد الحقيقي ضعيف بحكم اعتماده على النفط بنسبة تتراوح 40- 60 % من الناتج المحلي الاجمالي، طيلة السنوات الماضية حسب بيانات البنك المركزي العراقي؛ وفقدان التنويع الاقتصادي وضعف الاستثمار الاجنبي بسبب الفساد وتردي البنية التحتية وغيرها.
هذه الامور دفعت لزيادة الدولار النفطي وارتفاع الاحتياطي الاجنبي من جانب وزيادة الطلب على الدولار نتيجة لزيادة الاستيرادات والتوقعات بارتفاع سعر الدولار وغيرها من جانب آخر.
والنتيجة حصل توازن نقدي دون توازن اقتصادي حقيقي.
مخاطر تسيس السياسة النقدية
الواقع ان العراق لديه توازن نقدي هش بدون توازن اقتصادي حقيقي مبني على قاعدة انتاجية، حيث ان الحكومة مجرد ما أن تنحسر ايراداتها النفطية التي تمثل العمود الفقري والتي تشكل أكثر من 85 % من ايراداتها العامة، طيلة السنوات الماضية حسب بيانات وزارة المالية؛ سرعان ما تلجأ للتدخل في السياسة النقدية وسعر الصرف.
أي تلجأ الحكومة للتدخل في البنك المركزي وتفقده استقلاليته وتدفعه لرفع سعر الدولار لتحقيق المزيد من الدنانير لتقليص عجز الموازنة وتكون لديها القدرة على تمرير الموازنة تحت قبة البرلمان.
هذا السلوك يعطي انطباعاً واضحاً على استخدام السياسة النقدية لأغراض السياسة المالية التي تذهب في الغالب للجانب التشغيلي السياسي لا الاستثماري التنموي، مما يعني ان السياسة تستخدم الاقتصاد لمصالحها وليس العكس.
التصحيح التدريجي
وهنا يُطرح التساؤل الآتي:
هل سعر الصرف يمثل بداية الاصلاح أم نهايته؟
اتضح أعلاه، ان التوزان النقدي يكون هش إذا لم يسبقه توازن اقتصادي حقيقي، مما يعني ان تغيير سعر الصرف ليس بداية الاصلاح وانما هو نتيجة لوجود اقتصاد حقيقي.
وهذا لا يعني القبول ببقاء سعر الصرف تحت حماية البنك المركزي العراقي لان استمرار الدفاع عن سعر الصرف بشكل مستدام، هو شبيه باستمرار المريض على المنشطات دون الاعتماد على ذاته.
وفي المقابل لا يمكن رفع الحماية عن سعر الصرف بشكل مفاجئ وغير مدروس لأن اعتماد هذا الاسلوب يعني زيادة الاثار السلبية على المجتمع والاقتصاد مثل انخفاض القوة الشرائية وارتفاع التضخم وزيادة الفقر.
مما يتطلب العمل على وضع خطة مدروسة لانسحاب البنك المركزي وبشكل تدريجي بالتزامن مع تحسن قدرة الاقتصاد على توليد الدولارات المطلوبة.
سبل الإصلاح
- تعزيز استقلالية البنك المركزي وعدم التدخل في عمله لان الحفاظ على استقلاليته يعني استقرار التوقعات وانخفاض الطلب المضاربي.
- ترشيد الاستيراد أي التركيز على السلع والخدمات الضرورية مما يؤدي لتقليص الطلب على الدولار وتقليص الفجوة السعرية.
- ضبط الانفاق العام ورفع نسبة الانفاق الاستثماري نحو المشاريع التنموية التي تمثل أهمية قصوى في المرحلة الراهنة.
- والعمل على توفير البيئة الاستثمارية المحفزة للاستثمار المحلي والجاذبة للاستثمار الاجنبي مما يؤدي لزيادة الدولارات الوافدة وتقليص الطلب على الدولار.
- كذلك استخدام السياسات الاقتصادية لتحقيق التنويع الاقتصادي والتركيز مبدئياً على القطاعات ذات الاولوية مما يؤدي لتخفيض الطلب المحلي على الاستيراد والدولار.
- كما يمكن التركيز على السلع والخدمات التي يمتلك العراق فيها ميزة نسبية لأجل زيادة الصادرات وتوليد الدولار والتخفيف من الضغط على سعر الصرف.
الخلاصة، ان سعر الصرف يتم استخدامه كأداة لإنقاذ الموازنة العامة وضعف الاقتصاد، ولأجل ان يتم استخدامه كأداة للنمو لابد من التركيز على اعتباره كنتيجة للإصلاح الاقتصادي لا كبداية وفق خطة مدروسة بعناية.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!