ما انفكت السلطة تتقصى اغواراً موحشةً بركاب الشر والسوء تحت جنح الذريعة والمصلحة، فكانت تجارة السم الأبيض من بين ادواتها والعابها القذرة. ففي المقام الشائع المعروف أن شبكات تجارة المخدرات العابرة للحدود والقيود، تنتهك امن الدولة وقوانينها وسيادتها ، بحثاً طائشاً عن تعظيم المكاسب والارباح تحت جنح الظلام وبعيداً عن اذرع السلطة وأجهزتها؛ ولنتذكر في هذا السياق ، المسارات المعقدة لتهريب الأفيون من آسيا أو الكوكايين من أمريكا اللاتينية عبر مناطق العبور غرب إفريقيا والبلقان، في تحدٍ دائم وسافرٍ لأليات الرقابة الحدودية التي أجبرت تلك الدول في اكثر من مناسبة واتفاقية على التنازل عن جزءٍ من سيادتها للتعاون الأمني الأجنبي في مواجهة هذه التجارة التي تحولت بفعل أموالها وشبكة علاقاتها الواسعة الى معول هدمٍ لهيبة الدولة ومؤسسات حفظ النظام والقانون واضعافها او اغراق المسؤولين فيها ( أي تلك المؤسسات ) بالفساد في سبيل اخضاعهم لتحكم تلك المافيات؛ حتى تتحول أجزاء من الدولة ومؤسساتها إلى "دولة مفسدة داخل الدولة".
بيد ان سلطة الدولة، لا تقبل دوماً بدور الضحية المستضعفة، ولا تأنف من الخوض في هذا المستنقع الآسن لتجارة المخدرات سعياً لتأمين مصالحها وتعظيم قدراتها على التأثير وتطوير مساحات النفوذ على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ وهكذا تحولت عائدات المخدرات - بحسابات السلطة – الى رافعة جيوسياسية متعددة الأوجه والاستعمالات لتحقيق الأهداف الاستراتيجية وحسم الصراعات السياسية وبناء النفوذ وإضعاف الخصوم.
فعلى الصعيد الداخلي وفي المقام الأول تدخل الأموال المتدفقة من تجارة المخدرات في نطاق ما يعرف باقتصاد الظل لتلك الدول التي تُعاني من عجز هيكلي في الموازنة أو تُفرض عليها عقوبات دولية، حينما تعمد سلطاتها الى تسهيل هذه التجارة أو التورط فيها لتوفير العملة الصعبة أو صفقات السلاح بعيداً عن الرقابة الدولية. وليس ادل على ذلك من الحالة الأفغانية بعد عام 2001، حين أصبحت زراعة الأفيون وإنتاجه مصدر دخلٍ رئيسٍ لخزينة طالبان، قدرت عوائده بنحو 400 مليون دولار سنوياً وفق تقارير الأمم المتحدة لعام 2021. وهي الأموال التي مكّنت التنظيم من تمويل عملياته العسكرية وشراء الأسلحة رغم الحصار الدولي.
وتزداد الحالة تعقيداً وخطورة على الامن والاستقرار الدولي والإقليمي، عندما تتراصف خطوط تهريب المخدرات مع تهريب السلاح ، وتتحالف قوى الدول المارقة مع قوى اللادولة في استثمار عوائد هذه التجارة لتقوية شوكتها على حساب تهديد امن جيرانها من الدول؛ إذ تُظهر خبرات مناطق الصراع، كيف تتقاطع تجارة السلاح والمخدرات في شبكة واحدة. فعوائد تجارة المخدرات تُحوّل إلى سلاح، والسلاح يضمن مسالك التهريب وحماية القوافل، ما يُنتج اقتصاد حربٍ متكامل يعيد تدوير العنف بوصفه سياسة واقعية للاستمرار؛ وهي اللعبة القذرة التي اجادها نظام بشار الأسد في سوريا بعد الحصار الدولي الخانق عليه بالتعاون مع أنظمة وجماعات متحالفة معه ؛ إذ تشير تقارير دولية عدة إلى تحول مناطق مثل البادية السورية إلى مراكز لإنتاج الكبتاغون، الذي أصبح يُعرف بـ"مخدر الميليشيات" لتمويل العمليات العسكرية في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي عصفت بهذا النظام المحاصر.
في المقام الثاني قد تستغل بعض الأنظمة السياسية ملف المخدرات لإعادة تركيب السرديات العامة عبر تضخيم التهديد، لصناعة حالة استنفارٍ قصوى لتبرير سياسات أمنية استثنائية، أو تصوير حملات مكافحة المخدرات بوصفها “معارك وجود” لا بديل عنها، بغية كسب الرأي العام الداخلي والدولي، وصرف الانتباه عن أزمات النظام واقتصاده ؛ فتُصبح مكافحة المخدرات – وفق هذا السياق - "قضية تحويلية يُعلن فيها النظام "حرباً شاملة" على المخدرات، لبناء رأسمالٍ رمزي ٍللسلطة عبر اظهارها كحامٍ اخلاقي للمجتمع من خطر التفكك، بهدف توجيه الغضب الشعبي إلى عدو اجتماعي واضح تجسده المخدرات، بدلاً من توجيهه نحو قصورها واخفاقاتها( أي السلطة ) في الجوانب السياسية والاقتصادية. في الفلبين – على سبيل المثال - خلال حكم رودريغو دوتيرتي (2016-2022)، تحولت "الحرب على المخدرات" إلى مسرح دموي أودى بحياة آلاف المواطنين، مما شغل الرأي العام عن قضايا الفساد المتفشي والتحديات الاقتصادية، بينما منحت النظام شرعية شعبوية باعتباره حامياً للأمن الوطني.
على الصعيد الدولي، ومع اتساع خارطة انتاج واستهلاك المخدرات وتفاقم خطورتها حتى بلغت قيمتها السوقية نحو650 مليار دولار سنوياً، وبلغ عدد من يتعاطى منتجاتها بنحو 316 مليون شخص 3، تحولت هذه التجارة إلى مشكلة عالمية تعجز الدول والمنظمات الدولية على حلها ، رغم تعاونها الحثيث على كل المستويات الامنية والقانونية والصحية وحتى السياسية في هذا السياق، الامر الذي جعل من هذه الجهود الدولية، فرصةً ذهبية لبعض الأنظمة السياسية للانخراط الفاعل فيها واستثمارها بجعلها منصةً مثاليةً للدعاية والترويج لسياساتها عالميا وكسب التعاطف الدولي مع قضاياها؛ ولاسيما حينما تُقدم بعض الحكومات نفسها كضحية للجريمة المنظمة العابرة للحدود، طالبة المساعدة الدولية، والمثال المكسيكي يوضح هذا البعد، حيث استخدمت الحكومات المتعاقبة في المكسيك، خطاب "الحرب ضد المخدرات" لتبرير التعاون العسكري مع الولايات المتحدة والحصول على مساعدات مالية تحت مسمى مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
على صعيد متصل ، قد يوفر التعاون المكثف مع المنظمات الدولية، والتوقيع على الاتفاقيات الدولية، واستضافة المؤتمرات المعنية بمكافحة المخدرات، فرصاً ومنصات دعائية واعدة تستغلها بعض الحكومات في تلميع صورتها الدولية وتطوير نفوذها ودفع التهم الدولية لها في مجال انتهاكات حقوق الانسان ؛ وهي الحالة التي نجحت المملكة العربية السعودية باستثمارها ببراعة، حينما تحولت من دولة ممر للمخدرات في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين إلى لاعب رئيس في الجهود الدولية لمكافحة المخدرات ، عبر استضافة المؤتمرات الدولية وتمويل برامج المكافحة في الدول الفقيرة، الامر الذي عزز من مكانتها الدبلوماسية ونفوذها الاقليمي.
من جانب اخر قد تُستخدم تجارة المخدرات كسلاح جيوسياسي لاختراق الدول المستهدفة واغراق سوقها بالمخدرات في اطار ما يعرف بـ "الحرب غير التقليدية للجيل الرابع" (Fourth Generation Warfare)، بهدف اضعافها عبر ثلاث آليات متداخلة: اولها بإنهاك المؤسسات الأمنية بمهام مطاردة شبكات تجارة المخدرات واجتثاث جذورها، وثانيها بخلق اقتصاد ظلّ يلتهم الإيرادات الشرعية ويستنزف العملة الصعبة للدولة في شراء المخدرات من خارج البلاد ومثلها في تغطية نفقات العلاج من الادمان عليها ( أي المخدرات ) ، وثالثها بتفكيك النسيج الاجتماعي لشعب الدولة المستهدفة بإغراق شعبه بالإدمان والعنف المرتبط بالسوق غير المشروع لتجارة المخدرات ؛ والمثال الكلاسيكي الصارخ على هذا المسعى ، ينهض من حروب الأفيون (1839-1842 و 1856-1860) التي شنتها القوى الاستعمارية الاوربية ضد الصين بهدف ضمان تدفق واستخدام المخدرات في كسر المقاومة الوطنية الصينية وتدمير نسيجها الاجتماعي والاقتصادي تمهيداً للسيطرة التجارية والسياسية عليها. وفي العصر الحديث، حينما اتهمت الولايات المتحدة - ابان الحرب الباردة- كوبا ونيكاراغوا بتسهيل تهريب المخدرات إلى الأراضي الأمريكية لإضعاف المجتمع الأمريكي.
وبكل الأحوال لن تجد حكومات الدول غضاضة في استغلال ملف تجارة المخدرات كذريعة وغطاء لشرعنة وتبرير التدخلات العسكرية والسياسية في شؤون الدول المستهدفة او حتى فرض العقوبات الدولية عليها، طالما اقتضت مصالحها ذلك، وغالبا ما يبرّر هذا النهج – دوليا - باعتباره دفاعاً متقدماً عن " الامن القومي " وفهماً مستحدثاً ومرناً لقواعد السيادة للدول، بينما يُنتج في الواقع طبقاتٍ جديدةٍ من التسييس، والتجييش لفرض الإرادة بقوة السلاح تحت ذرائع استعادة الامن ومواجهة تجارة المخدرات. وليس ادل على ذلك من الغزو الأمريكي لبنما عام 1989 تحت غطاء فرض القانون والامن بمحاكمة الرئيس البنمي مانويل نورييغا بتهمة الاتجار بالمخدرات. وهي ما تلوح به أمريكا اليوم ضد الرئيس الفنزويلي الحالي (نيكولاس مادورو) لغزو بلاده لذات السبب والهدف.
تأسيساً على ما تقدم، لقد اظهرت اللعبة السياسية القذرة للمخدرات أنها ليست هامشاً او جرحاً على جسد الدولة، بل شرياناً موازياً يغذّي سياسات القوة والشرعية والتدخل والاقتصاد الخفي، ويتخطّى الحدود بقدرة على التكيّف مع الأزمات. وبينما يستمر تضاعف الأكلاف العالمية، يبقى مفتاح إدارة المخاطر في ثلاثية متوازنة: بناء سياسات مبنية على الأدلة تحترم حقوق الإنسان وتفهم الديناميات الاجتماعية، ربط المكافحة بأجندة إصلاح مؤسسي يُغلق منافذ الفساد والاقتصاد الموازي، وتوسيع التعاون الدولي بآليات عملية تتجاوز الشعار إلى الفعل، بحيث لا تُستغلّ المخدرات ذريعة لتسييس الأمن بقدر ما تُدار باعتبارها مشكلة عامة تتطلّب عقل دولة ورصانة مجتمع.
مراجع مختارة:
1. د. اثير هاني حرز، استراتيجيات التعاون الدولي في مكافحة تجارة المخدرات، مجلة قضايا سياسية ، العدد 79 ، السنة 2024 ، ص ص 296-323 .
2. أيوب عقيد خالد ، المخدرات والآثار الدولية والإقليمية لمكافحته ، مجلة البحوث القانونية والسياسية ، مجلد 3 ، عدد 3 ، تموز 2023 ، ص ص35-80
3. تقرير المخدرات العالمي 2025 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة
4. تقرير مسح الأفيون في أفغانستان 2021 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة UNODC). )
5. محمود جمال عبد العال، كيف تؤجج تجارة المخدرات أزمات الشرق الأوسط؟ مقال منشور على موقع مركز المستقبل
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!