القوى السياسية في العراق: معضلة المواكبة والاستجابة

على مدى السنوات بعد عام 2003 ومرحلة الانتقال الى النظام السياسي الديمقراطي في العراق، لم تكن" القوى السياسية" كافة، والسلطة التي انتجتها ممثلة ومعبرة عن اهم ركن من اركان الدولة وهو الشعب، ولا مدافعة او راعية لمصالحه ولازالت، ولا مدركة لتطلعاته في مستقبل يزيل عنه غبار سنوات من الظلم والمعدومية والشتات في ظل نظام ديكتاتوري بليد تحركه الحماقة والمصالح الخاصة.

اثبت تعاطي "القوى السياسية" كافة وبالأخص "الشيعية" منها مع الحركة الاحتجاجية والمكائد التي وضعتها للمحتجين، انها قوى مصلحية لازالت تعيش المظلومية وتتعامل بعقلية الانتقام والاتهام والخوف من الاخر، وتتعامل برجعية مع التغيير وتنظر له على انه مؤامرة مضادة لإنجازاتهم - وفقا لتصورهم - مقارنة بمرحلة ما قبل 2003. 

معروف ان الاحزاب والقوى السياسية هي عناصر مهمة لأي نظام سياسي ولعملية ادارة الحكم، فهي تنظيمات تولد من بين الجماهير لتمثيلها عبر الحصول على تفويض منها (الجماهير) عبر آليات كالانتخابات لإدارة عملية الحكم والعمل على رعاية مصالح الجماهير عبر مؤسسات الدولة. وحماية مصالح الشعب تتطلب التواصل المتزايد مع الجماهير لإشراكهم في صنع القرار، ومواكبة المستجدات – عبر السلطات العامة للدولة ومؤسساتها- في الصعد المختلفة بما يؤمن ويضمن توفير احتياجات الشعب. ولكن ما يلاحظ على الحالة العراقية ان مواكبة احوال الشعب من قبل السلطات العامة و"القوى السياسية" تأخرت سنوات عدة ومن ثم اصبح الشعب في واد والنظام السياسي وسلطاته ومؤسساته في وادٍ آخر. وما تشهده البلاد من حركة احتجاجية خير دليل. ويمكن ايجاز اهم الاسباب بالآتي:

- اسباب تتعلق بطبيعة الاحزاب نفسها في كونها احزاب محدودة الرؤية وذات افاق ضيقة فما يتعلق ببناء الدولة باتجاه الانتقال الى نظام حكم ديمقراطي تستوجبها عملية التغيير السياسي. وهذا يتأتي من عوامل عدة منها ما يرتبط بخلفياتها الفكرية المشوشة تجاه الدولة ومنها احزاب الاسلام السياسي "الشيعية" و" السنية"، وهذا ما دفع كل منها لركوب عجلة الطائفية بدعوى التخوف من الآخر المختلف طائفيا متبجحة بمنظومة من العقائد الدينية في بناء الدولة لخداع مناصريها وتظليلهم، في وقت كان الشعب العراقي بطوائفه ودياناته واعراقه المختلفة بعيدا عن هذا النمط من التعايش. وتداعيات ذلك السياسية-الامنية عمق الفجوة بين تلك القوى من جهة والشعب من جهة اخرى، كما انه دفع بتلك القوى لانتهاج سلوك سياسي منحرف عن مشروع بناء الدولة واستثمار فرصة التحول الى نظام سياسي ديمقراطي.

- اول ما نتج عن السلوك السياسي المنحرف هو اقرار وتبني نُظم انتخابية نتاج عنها أُطر مشوهة في التعامل مع سلطات النظام السياسي ومؤسسات الدولة ومنها التوافقية، والمحاصصة الطائفية والسياسية، بدءا من القائمة المغلقة وانتهاءاً بنظام سانت ليغو المعدل(1.7 ) والتي قادت البلاد الى ما نعيشه اليوم من رفض شعبي للنظام وسلطاته. 

- الطبيعة التكوينية للأحزاب والتيارات السياسية القائمة على معايير صلة القرابة والتوريث في تولى قيادة التنظيمات كان لها دورها في بُعدها عن الجماهير، وليس هذا فحسب بل انعكست على الطبيعة التنظيمية للأحزاب والتي اهم ما وصمت به هو انها احزاب غير ديمقراطية وقائمة على الاستبداد والتوريث في تولى الامانة العامة. وهذا ما قوض صلتها بالجماهير، الا من قبل القليل القائمة علاقتهم على اساس المنفعة الشخصية. 

- كل ما ذكر في اعلاه انعكس على مستوى النظام السياسي وسلطاتها ومؤسساته وانماط ادائه والتي اصبحت تخلوا من الرقابة السياسية بفعل غياب المعارضة النيابية وهي اهم ميزة للنظم السياسية البرلمانية.

- غياب الرقابة الشعبية الفاعلة على الاداء والسلوك السياسي وذلك بفعل وهن الثقافة السياسية والوعي السياسي بضرورة المشاركة السياسية المؤسساتية (عبر الانتخابات من حيث الترشيح والتصويت) والغير مؤسساتية عبر الاحتجاج. وعلى الرغم من ظهور بوادر الاحتجاج الشعبي عام 2011 وما تلاها في العاصمة بغداد والمدن الغربية والشمالية الغربية، الا ان الاحزاب سرعان ما ادارتها بأزمات امنية وسياسية، فضلا عن قمعها بالقوة المفرطة من قبل السلطة المُسيطر عليها من قبل تلك القوى والاحزاب.

المتغير الاخر موضوع البحث هو الاستجابة، ونقصد بها استجابة تلك " القوى السياسية" للمطالب الجماهيرية في ضرورة تقويم مسار الانتقال الى النظام السياسي الديمقراطي عبر العدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية القائمة على ارضية صلبة تتمثل في توافر نظام سياسي حامي لمصالح الجماهير وضامن لحاضرهم ومستقبلهم. مع التأكيد ان تلك المطالب لازالت في اطار النظام السياسي وسلطاته العامة ومؤسساته. والدولة العراقية بوضعها الحالي تؤشر متغير خطير الا وهي سيطرة تلك القوى والتيارات السياسية على سلطات النظام السياسي ومؤسسات، كما انها مسيطرة على اغلب المؤسسات غير الحكومية والفعاليات الثقافية والاجتماعية والاكثر من ذلك انها تمتلك جهات مسلحة كبيرة ومؤثرة في القرار السياسي خارج سيطرة الحكومة واصبحت تحرج النظام وسلطاته ومؤسساته. ولذلك نؤكد في هذه السطور ان الاستجابة تقع على عاتق "القوى والتيارات السياسية" بالدرجة الاساس، لتتولى سلطات النظام ومؤسساته الاستجابة الاجرائية. 

عليه نخلص الى ان مشكلة تلك القوى والتيارات السياسية – وبالأخص القوى "الشيعية" - في مواكبة واقع الجماهير والتي من المفترض ان تكون ممثلة لهم، وتأخرها خطوات وسنوات عن التحول الاجتماعي الحاصل بسبب عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عدة، جعلها في مأزق اليوم وهي تواجه حراك اجتماعي احتجاجي واسع شكل صدمة كبيرة لها في جغرافية يعتقدون انها عمق انتخابي وجماهيري لهم. 

التعليقات