التهديدات الرقمية للمؤسسات الديمقراطية: قراءة في تأثير الذكاء الاصطناعي على الانتخابات والمجال السياسي

التهديدات الرقمية للمؤسسات الديمقراطية: قراءة في تأثير الذكاء الاصطناعي على الانتخابات والمجال السياسي
في العراق من الممكن أن تحدث تلك الهجمات، أو التوظيفات، تأثيرًا سياسيًا واجتماعيًا وأمنيًا واسع النطاق، ومن الممكن أن يتعدى ذلك، ويصل إلى حالة الاستقرار السياسي "الحذر" الذي يشهده البلد منذ احداث ليلة المنطقة الخضراء والمواجهات المسلحة بين انصار التيار الصدري والفصائل المسلحة التابعة للإطار التنسيقي بعد اعلان نتائج انتخابات 2021 وفشل القوى السياسية العراقية في تشكيل الحكومة

لقد وصف الفيلسوف الألماني »يورغن هابرماس« المجال العام بأنه: »مساحات عامة حيث يمكن للأفراد التجمع بحرية وبشكل غير رسمي لمناقشة احتياجات المجتمع والتعبير عنها وتكوين الرأي العام«. ويُعد المجال العام السليم جزءًا لا يتجزأ من الديمقراطية؛ لأنه يتوسط بين الدولة والمجتمع، حيث يتحكم في الحكومة الديمقراطية ويشرعنها. وعندما صاغ »هابرماس« هذا المفهوم لأول مرة، كانت الصحف والتلفزيون والإذاعة بمثابة وسائل الإعلام للمجال العام. أما الآن، فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، وأنواع أخرى من المنتديات التي تعتمد على الحاسوب هي السائدة. لقد أدت هذه الأشكال الجديدة من الوسائط الرقمية إلى تفتيت التواصل العام والفضاءات التي يتم فيها. وهذا يؤثر على قدرة المواطنين الديمقراطيين على مواجهة التحديات، وعلى قدرة المجتمعات الديمقراطية على الحفاظ على تماسكها. ففي تسعينيات القرن الماضي، كان الإنترنت يُعتبر بابًا مفتوحًا للديمقراطية والحرية. أما اليوم، فمن المرجح أن يُعتبر الإنترنت عاملًا لتآكل الديمقراطية. 

فلا شك أن التقنيات الرقمية أثرت على الديمقراطية بطرق إيجابية عديدة، إذ ساعدت تطبيقات الديمقراطية الإلكترونية، وغيرها من الأدوات الرقمية على زيادة الشفافية والاستجابة، وجعلت تقديم الخدمات الحكومية أكثر كفاءة. ويمكن للأحزاب السياسية والمسؤولين المنتخبين استخدام الأدوات الرقمية للتواصل مع الناخبين بسهولة أكبر. وقد أدى تزايد الرقابة على الحكومة والطبقة السياسية، الذي أصبح ممكنًا من خلال التقنيات الرقمية والاتصالات عبر الحاسوب، إلى زيادة المساءلة. وبالنسبة للحركات الاجتماعية والناشطين، أصبح الإنترنت أداة لا غنى عنها للتنظيم، ورفع مستوى الوعي، وتوفير منصات للأصوات المهمشة سابقًا، وتنظيم الاحتجاجات والتظاهرات بشكل واسع. وعلى الرغم من أن رصد الاستخدامات المثلى للذكاء الاصطناعي في الحملات السياسية، قد يكون أمرًا معقدًا، ولكنه بلا شك يترك تأثيرًا ملموسًا. إذ تستخدم اليوم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز تفاعل الناخبين عبر تقديم رسائل مخصصة وموجهة بشكل دقيق. كما تسهم هذه التقنيات في رفع كفاءة الحملات الانتخابية من خلال تمكين المرشحين من تحليل وتصنيف كميات ضخمة من المعلومات المتعلقة بالقضايا المهمة، فضلًا عن مساعدتهم في اعداد برامجهم الانتخابية. إلا أن هناك إجماع بين الخبراء والمتخصصين، على أن الإنترنت ساهم في تآكل الديمقراطية. إذ أظهرت مراجعة منهجية حديثة للبحوث العالمية المتاحة حول منصات الاتصالات الرقمية، أن الإنترنت، من حيث السلوك السياسي، كان له آثار سلبية عديدة على الديمقراطيات، وأن هذه الآثار كانت أكثر حدة في الديمقراطيات الراسخة. كما وجدت المراجعة، أن استخدام الوسائط الرقمية يمكن أن يزيد من معرفة المواطنين ويعزز المشاركة على مستوى منخفض، إلا أنه غالبًا ما يضر بالثقة في العملية السياسية والمؤسسات الديمقراطية مثل البرلمانات والقضاء والدوائر الحكومية ووسائل الإعلام. ووجدت المراجعة كذلك، ارتباطًا بين استخدام الوسائط الرقمية وزيادة الاستقطاب وجاذبية الشعبوية.

وتظهر تأثيرات توظيف التكنولوجيا الرقمية في الصراعات السياسية وتضليل الرأي العام، ولاسيما في المجال السياسي والانتخابات، إذ تظهر خطورة الإعلانات السياسية التي تستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى زائف واقعي ومضلل - مثل »التزييف العميق«، بشكل واضح وكبير، وهي مواد إعلامية مُتلاعب بها، تصور أشخاصًا يفعلون أو يقولون أشياء لم يقولوها أو يفعلونها، أو أحداثًا لم تحدث في الواقع - لتضليل الجمهور بشأن ما يؤكده المرشحون، ومواقفهم من القضايا، وحتى ما إذا كانت أحداث معينة قد وقعت بالفعل. إذا تُركت هذه الاستخدامات الاحتيالية والمضللة للذكاء الاصطناعي دون رادع، فقد تنتهك حق الناخبين الأساسي في اتخاذ قرارات مستنيرة. فضلًا عن تصورات الناخبين للمرشحين، إذ يُمكن استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب بإدارة الانتخابات، بما في ذلك نشر معلومات مضللة لقمع إقبال الناخبين. ويمكن للجهات الفاعلة السيئة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لإنشاء وتوزيع رسائل كاذبة بشكل مقنع حول مكان وزمان الإدلاء بأصواتهم، أو لثني الناخبين عن الحضور إلى مراكز الاقتراع أصلًا. إذ يتغلغل الذكاء الاصطناعي في جميع جوانب الانتخابات، سواء من عمليات إدارة الحملات الانتخابية إلى منظومة المعلومات. وكذلك يُعزز قدرات الجهات الفاعلة، سواءً كانت جيدة أو سيئة، لتحقيق نفس الأهداف التي لطالما سعت إليها في الانتخابات. وحتى بعد انتهاء عملية الاقتراع، يُمكن أن يستخدم الذكاء الاصطناعي لتزييف تسجيل صوتي لمرشح يدّعي تلاعبه بالنتائج، أو لتوليد معلومات مضللة أخرى، قد تُقنع مؤيدي حملة فاشلة، بتعطيل إجراءات فرز الأصوات والتصديق عليها، كما حصل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020. وقد استُخدمت بالفعل وسائط إعلامية مُزيفة مُصنّعة باستخدام الذكاء الاصطناعي للتأثير على انتخابات رئيسية في الأرجنتين وسلوفاكيا.

فعلى سبيل المثال، قبل وقت قصير من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في الحادي والعشرين من يناير 2024، أي قبل يومين فقط من الانتخابات في ولاية نيو هامبشاير، تلقى آلاف الناخبين المسجلين مكالمات هاتفية غير اعتيادية. وعلى الرغم من أن المكالمات الآلية التي تُجرى نيابة عن المرشحين، أو من أجل دعم إجراءات الاقتراع، تُعد أمرًا مألوفًا، ولاسيما في الأيام التي تسبق أي انتخابات حاسمة، إلا أن هذه المكالمة كانت استثنائية، وما جعلها فريدة، هو أنها جاءت مباشرة من رئيس الولايات المتحدة نفسه، إذ بدا الصوت القادم عبر الخط، مطابقًا لصوت الرئيس جو بايدن، حتى أنه استخدم العبارة التي اشتهر به» يا له من هراء« لكن الأمر الذي أثار الدهشة، هو ما كان يقوله لأولئك الناخبين المحتملين؛ إذ حثهم على التراجع عن التصويت، محذرًا إياهم بشكل خاطئ، بأن المشاركة في الانتخابات التمهيدية ستؤدي بطريقة ما إلى فقدان أهليتهم للتصويت في الانتخابات العامة، خلال شهر نوفمبر من العام نفسه. 

وعلى الرغم من أن المكالمات الآلية لم تؤثر على نتائج التصويت؛ فقد فاز بايدن بسهولة في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في نيو هامبشاير. ومع ذلك، أحدثت هذه الحيلة صدمةً في عوالم السياسة والإعلام والتكنولوجيا؛ لأن الرسالة المضللة لم تأتِ من الرئيس، بل من آلة. إذ كانت المكالمة تُعرف باسم »التزييف العميق«، وهو تسجيل مُولّد بواسطة الذكاء الاصطناعي، أنتجه مستشار سياسي ليبدو تمامًا مثل بايدن، وفي هذه الحالة، يُقلّل على ما يبدو من إقبال الناخبين. وهذا ما يعد، أحد أبرز الأمثلة على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي المُولّد في المجال السياسي والانتخابات.

ففي ظل الانفتاح الفضائي والتطور التكنولوجي وما يشهده العالم من هجمات سيبرانية، يمكن أن تكون الهجمات الرقمية على العمليات الانتخابية والمؤسسات الحكومية، جزء من الحروب الدفاعية أو الاستباقية، أو جزء من عملية افشال المشاريع السياسية والانظمة السياسية بشكل عام. إذ تشير الأدلة المتراكمة، إلى أن الهجمات الرقمية لا تقتصر على البنية التحتية الحيوية، بل تستهدف أيضًا نظم الحكم والمؤسسات الديمقراطية، كالتأثير في الانتخابات، وتوجيه الرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واختراق بيانات الناخبين أو الأحزاب. وقد ظهرت حالات ملموسة في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وكذلك العراق، إذ وُجّهت اتهامات لجهات أجنبية بالتدخل في العمليات الانتخابية من خلال حملات دعائية رقمية ضخمة أو تسريب معلومات محرجة، كما حصل في الانتخابات التشريعية العراقية عام 2021، التي خسرها الإطار التنسيقي، لصالح التيار الصدري، وبدأت نخب وماكنات الإطار السياسية والإعلامية، باتهام الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الإمارات العربية... وغيرها من الدول، بالتدخل في الانتخابات العراقية، لصالح التيار الصدري والقوى السياسية الناشئة "قوى تشرين". على الرغم من أن هذه الاتهامات، اثبتت فيما بعد بأنها ذريعة سياسية أكثر من كونها حقائق قد وقعت بالفعل. وتستفيد هذه الهجمات، من مساحة الحرية التي توفرها الأنظمة الديمقراطية، مما يجعلها أكثر عرضة لهذا النوع من التهديدات. لذا، أصبح تأمين المؤسسات السياسية رقميًا عنصرًا جوهريًا في منظومة الأمن القومي. وفي هذا السياق، تسعى الدول إلى تطوير أطر قانونية وتقنية فعالة لضمان حماية العمليات الديمقراطية والحفاظ على نزاهتها من أي اختراقات إلكترونية.

في العراق، تختلف الامور عن الدول المتقدمة، او عن تلك الأنظمة السياسية الراسخة في الديمقراطية، التي من الممكن أن لا تؤثر فيها الهجمات الرقمية وتوظيفات الذكاء الاصطناعي، بشكل كبير، أو لا يتعدى تأثيرها المستوى الحكومي أو السياسي المحدود. ففي العراق من الممكن أن تحدث تلك الهجمات، أو التوظيفات، تأثيرًا سياسيًا واجتماعيًا وأمنيًا واسع النطاق، ومن الممكن أن يتعدى ذلك، ويصل إلى حالة الاستقرار السياسي "الحذر" الذي يشهده البلد منذ احداث ليلة المنطقة الخضراء والمواجهات المسلحة بين انصار التيار الصدري والفصائل المسلحة التابعة للإطار التنسيقي بعد اعلان نتائج انتخابات 2021 وفشل القوى السياسية العراقية في تشكيل الحكومة؛ الأمر الذي ينذر بتهديد خطير لمستقبل النظام السياسي العراقي، وللبنية الاجتماعية المنقسمة بين القوى السياسية، حزبيًا ومذهبيًا وقوميًا، ولاسيما في ظل تأخر العراق في الانظمة الالكترونية، وفشله في تحقيق أي تقدم ملموس في مجال الدفاع الالكتروني والأمن السيبراني.  


المصادر:

1- . Lydia Khalil, Overcoming digital threats to democracy: Using deliberative democracy to enhance trust and legitimacy in digital spaces, LOWYINSTITUTE, https://www.lowyinstitute.org/publications/overcoming-digital-threats-democracy 

2- . ADAV NOTI, How Artificial Intelligence Influences Elections and What We Can Do About It, Center advances democracy through law, FEBRUARY 28, 2024: https://campaignlegal.org/update/how-artificial-intelligence-influences-elections-and-what-we-can-do-about-it 

م. ميثاق مناحي العيسى

م. ميثاق مناحي العيسى

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!