في ركنٍ منسي الى الغرب من أراضي ميانمار البوذية ( بورما سابقا) ، حيث تلتقي اعناق الجبال بأمواج خليج البنغال، تُكتب على ارض ولاية ( أراكان) قصة الاضطهاد الديني والعرقي ضد المسلمين الروهينغا البالغ نسبتهم 4% من إجمالي سكان البلاد البالغ عددهم 70 مليون نسمة، بأحرف من الدم والنار.. فمنذ عقودٍ طويلة، تتشح هذه الارض، بعباءةٍ من الصمت الموجع التي تُخفي تحتها واحدةً من أبشع المآسي الإنسانية في العصر الحديث؛ ضد الأقلية الإسلامية الاكثر ظلما واضطهادا على وجه البسيطة .
لقد غدى أبناء الوطن الاصلاء غرباء في أوطانهم، تُسفَكُ دماءُهم وتُنتهكُ حرماتُهم وتُدمرُ مساجدُهم، وتُحرقُ قراهم، وتنبذ في العراء بقاياهم بعد ارثٍ حضاري غرسوه عميقاً منذ القرن السابع الميلادي ، عندما وصل اولُ المسلمين إلى شواطئ مدينة (أراكان) محمولاً على سفن التجارة ، ليمهد السبيل لإقامة اول مملكة إسلامية دام ازدهارها قروناً عدة(1) ، حتى انطفأ نورها وانطمست معالمها تحت وطأة الاجتياح البوذي من قبل الملك "بوداباي" عام 1784م، لتبدأَ رحلةُ المعاناةِ والاضطهادِ المنظم للمسلمين في هذه الربوع.
لم يزدهم الاستعمارُ البريطانيُّ سوى فرقةً وخسراناً ، حينما لعبَ على وترِ الفرقةِ بين البوذيين والمسلمين ما بين التقريب والاقصاء حتى تفاقمت الضغينة وحلت القطيعة العرقية بين شركاء الوطن الواحد، فشهدَ عام ١٩٤٢م مذبحةً مروعةً راح ضحيتها مائةُ ألفِ مسلمٍ، وكانت نذيراً عابساً لما سيأتي على المسلمين من محنٍ في قادم الأيام والزمان.
بعد الاستقلال في عام ١٩٤٨، تحولَ الاضطهادُ إلى سياسةِ قمعية ممنهجة ضد المسلمين الروهينغا ، تخللتها مذابح وعمليات تهجير قسري متتالية(2)، يتعالى شرها ودمارها بعد كل انقلاب عسكري منذ عام 1962 حتى عام 2021 بحثاً عن الشرعية المستلبة بين أشلاء الضحايا والمهجرين من المسلمين؛ او لعله التجاذب المهوس بين بطش السلطة العسكرية البورمية الغاشمة وفساد السياسة المدنية المتبرقعة برداء الديمقراطية المزيفة ، هو الذي انتج تلك المأساة التي تمادى وجودها وامتقع لونها بحمرة دماء الابرياء وعتمة ظلم الاكثرية للأقلية وانسحاق العدالة وحقوق الانسان تحت جبروت طيش وجنون العرقية واوهام التطرف الديني المدجج بسلاح الجيش في مواجهة تلك الحكومة المدنية، والمستخف الى درجة الجنون المطلق برسالة بناء الاوطان.
وحتى بعد ان حلت الديمقراطية الغضة في ربوع هذا البلد ( ميانمار ) وانكفأ المجلس العسكري الذي حكم بورما نحو نصف قرن، في عام 2011 وتنفس هؤلاء المضطهدون المسلمون في أراكان انفاس المواطنة والمساواة النسبية بإعلان الحكومة عن نيتها في منحهم بطاقة المواطنة ، الامر الذي عده البوذيون وجماعاتهم المتطرفة صفعة تمس بالصميم سياسات التصفية العرقية ، فهؤلاء المتطرفون يسعون الى تحويل الى أراكان منطقة خاصة بهم لا يسكنها غيرهم ، فتزايد التوتر بين الطوائف الدينية في البلاد. وتجددت مآسي الاضطهاد والقتل والتشريد ضد أبناء هذا الإقليم المسلم على يد الجماعة البوذية الدينية المتطرفة «الماغ» التي اوغلت مجددا في قتل المسلمين وحرق أحياءهم وقراهم على مرأى من الشرطة وأمام صمت الحكومة التي اكتفت ببعض النداءات لتهدئة الأوضاع ، حتى اوقعت نحو 200 قتيل من الروهينغا ، وتم طرد أكثر من 140,000 مسلم من ولاية اراكان الى بنغلاديش المجاورة.
وبعد ان استتبت الأوضاع للحكومة البوذية في أبريل/نيسان 2014، واشتد عودها ، نكثت وعودها للمسلمين بمنحهم الهوية الوطنية ، فعدتهم بنغاليين في أول تعداد للسكان في البلاد منذ أكثر من 30 عاما، مما يشير إلى أنهم مهاجرون غير شرعيين من بنغلاديش، فمنعتهم من التصويت في الانتخابات العامة للبلاد في عام 2015 .
ولما استيأس المسلمون من جدوى المطالبة والشكوى او الخضوع السلبي لواقع الامر، إتجه بعضهم الى تكوين (جيش إنقاذ روهينغا أراكان) المعارض المسلح، الذي حمل لواء الدفاع عن حقوقهم في مواجهة الاضطهاد القمع ، فزاد من محنتهم بدل ان يخففها ، بعد ان استهدف مسؤولي الحكومة البوذية ، فكان الرد الحكومي بسلسلة هجمات ومجازر، لم تفرق بين المستضعفين والمسلحين من المسلمين ، حتى أصبح الوضع أكثر كارثية في عام 2017. وذكرت وكالات الإغاثة في أوائل سبتمبر/أيلول أن أكثر من 70,000 من الروهينغا غادروا بورما منذ بدء موجة العنف الأخيرة في أواخر أغسطس/آب.
واليوم تحولت حياة هؤلاء المسلمون في ولاية اركان إلى جحيمٍ مقيمٍ؛ فبعد ان انتزعت منهم هويتهم الوطنية بصدور قانون الجنسيةِ البورمي الجائرِ في عام ١٩٨٢، وتعداد عام 2015 ، سلبت منهم ارواحهم واملاكهم وحتى اعراضهم.. لقد حولتهم الدولةُ إلى أرقامٍ في سجلاتِ اللاجئين، وضحايا في معادلةٍ طائفيةٍ مقيتةٍ، فقد استهدفوا بالقصف الدوري من قبل الجيش البورمي (تاتماداو) وتعرضوا للاعتقال والتعذيب والمعاملة القاسية المهينة والاغتصاب ، والقتل خارج نطاق القضاء والإعدام بإجراءات موجزة،، مثلما تعرضت منازلهم ومساجدهم ومدارسهم المدنية والدينية للدمار والافناء (3). . يخضعون كل حين للعمل والإخلاء القسريين، ومصادرة الأراضي والممتلكات وإعادة التوطين ؛ مثلما تفرض عليهم العديد من العقبات التمييزية والقيود في الحصول على التعليم والصحة والسفر والزواج وحتى المعالجة في المستشفيات الحكومية فضلا عن التضييق عليهم بشأن العمل والعبادة (4). فباتوا اليوم منفيين مشردين في وطنهم يستوطنون أحياء معزولة ومخيمات للنازحين تخاصمها الرعاية الصحية ويستوطنها المرض والموت . . مئات الآلاف من الأطفال تمشي في ثياب بالية ووجوه شاحبة، وأقدام حافية، وعيون حائرة لما رأوا من مظالم واعتداءات البوذيين، تثقل الأجواء بصرخات الثكالى والأرامل الّلائي يبكين بدماء العفّة .
ورغم السواد الذي يلفّ المشهد، فإنّ قضية الروهينغا ما زالت شاهدةً على صبرٍ نادرٍ وإيمانٍ عميقٍ بقدرة الحقّ على البقاء. ففي خيام اللجوء، حيث يمتزج البؤس بالأمل، يواصل أبناء الروهينغا التشبّث بهويتهم الإسلامية ولغتهم وتراثهم، مؤمنين بأن الظلم، مهما طال، لا يملك أن يُطفئ نور العدالة.
إن ما يحدث في ميانمار ليس شأناً داخلياً، بل هو جريمة ضد الإنسانية تمس ضمير العالم أجمع. إنها صرخة تستنجد بالضمير الحي؛ فدماء الأبرياء وأحلام الأطفال الضائعة تذكرنا بأن الإنسانية سلسلة متصلة، وأن ظلم أي شعب في أي مكان هو ظلم للبشرية جمعاء، ذلك ان هذه المأساة هي مرآة تُظهر اختلال ميزان الإنسانية في عالمنا المعاصر. وما لم يتحرك الضمير العالمي لإنصافهم، فسيبقى التاريخ يكتب، بمدادٍ من الدموع، أن أمةً كاملة أُبيدت تحت ستار الصمت العالمي والله المعين .
مراجع مختارة
1. أسماء الخطيب،. تاريخ المسلمين في أراكان: من النشأة إلى الأزمة، دار الفتح للدراسات والنشر. 2017 ، ص. 32.
2. عادل بن علي العتيبي. قضية الروهينجا في ميانمار: جذورها وتطوراتها وسبل حلها، رسالة ماجستير (غير منشورة). جامعة أم القرى، مكة المكرمة ، 2016 ، ص 47 وما بعدها .
3. محمود عبد العظيم، المسلمون في ميانمار (بورما): الجذور التاريخية والأزمة المعاصرة، مكتبة مدبولي، القاهرة ، 2015، ص. 55.
4. منظمة هيومن رايتس ووتش ، الاضطهاد المستمر للروهينجا في ميانمار، تقرير مترجم . نيويورك. 2018، ص. 20 .
5. الشيخ دين محمد أبو البشر، أوضاع مسلمي بورما ، مقال متاح على موقع اسلام ويب بتاريخ 26/07/2012 ، على الرابط الاتي:
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!