ينبغي على القيادات والقوى السياسية النافذة عدم جعل التجربة الديمقراطية العراقية مجرد مريض محتضر ينتظر الموت ولو بعد حين، بل عليها جعلها وليدا واعدا ينمو يوما بعد يوم ليصل الى مرحلة النضج والقوة والاحترام، فنجاح هذه التجربة سيمثل نجاحا لكل العراقيين بصرف النظر عن خلفياتهم الاثنية والعرقية، واختلافاتهم السياسية والفكرية اما فشلها وانهيارها فهو خسارة بالغة سيعاني منها، وسيتحمل وزرها الجميع
جرت منذ سنة 2003 انتخابات عديدة في العراق، حملت معها آمالاً كبيرة في بناء نظام ديمقراطي حديث، لكن تلك الآمال اصطدمت بتعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي. فقد هيمنت على العملية الانتخابية مشكلات بنيوية، أبرزها المحاصصة الطائفية والعرقية، والتدخلات الخارجية، وضعف المؤسسات الدستورية، واستشراء الفساد... ومع كل دورة انتخابية، اتسعت الفجوة بين المواطن والطبقة السياسية، إلى الحد الذي جعل نسب المشاركة تتراجع بشكل أكبر في كل دورة انتخابية عن الدورة السابقة لها، فارتفعت الاصوات تطالب بالمقاطعة كوسيلة للاحتجاج يغذيها مزاج شعبي محبط، وقوى سياسية غير راضية عن الواقع السياسي السائد.
ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية القادمة والمقررة في الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2025، يبرز سؤال جوهري يسيطر على الشارع السياسي مفاده: هل يذهب العراقيون إلى صناديق الاقتراع، أم يلوذون بخيار المقاطعة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من التنبيه الى أمر في غاية الأهمية والخطورة وهو ان الانتخاب في العراق حق شخصي يستند الى مبدأ السيادة الشعبية، ومن حق كل ناخب تتوفر فيه الشروط القانونية ممارسة هذا الحق او الامتناع عن ممارسته، مما يعني انه من الخطأ وصول الصراع السياسي بين الفرقاء السياسيين الى درجة تجريم الناخب لممارسته او امتناعه عن ممارسة حقه الانتخابي، بل عليهم العمل بموضوعية وعقلانية لمعرفة الدوافع الكامنة وراء امتناع نسبة من الناخبين عن الادلاء بأصواتهم، فمعرفة هذه الأسباب يعد امرا مفيدا لإعادة النظر في أداء القيادات والقوى السياسية من جهة، كما يساعد على مراجعة وتصحيح المسار السياسي للعملية السياسية برمتها، من جهة اخرى، فبدون القيام بهذه المراجعة والتصحيح، ووضع الناخب في موضع الاتهام والتجريم ستكون العواقب مزيدا من القطيعة بين الناخبين والطبقة السياسية.
إضافة الى ما تقدم، فان التركيز على انقسام الناخبين الى معسكرين متضادين: معسكر المشاركين، ومعسكر المقاطعين ربما ينقل هذا الانقسام من مستوى الاختلاف الطبيعي في الرأي حول ممارسة الحق الانتخابي الى مستوى ادلجة هذا الانقسام وجعله متجذرا في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع مما يحوله الى ما يشبه التطرف الفكري والسياسي القابل للاشتعال والتصادم يوما ما، ومثل هذا السيناريو لا يمكن قبوله من قبل أصحاب المنطق السليم لما سيجلبه من مخاطر عديدة على الامن والاستقرار والتعايش داخل المجتمع.
إن الانتخابات ليست مؤشرا كافيا على سلامة المسار الديمقراطي في أي بلد، نعم قد يضمن تكرارها التداول السلمي للسلطة ضمن الأطر القانونية المقبولة، ويعطي الانطباع بإمكانية تطور الأداء الديمقراطي وتقويمه، ولكن الانتخابات لوحدها لا تحمي الديمقراطية، ولا تنجيها من الهلاك، وهذا ما اوضحته التجارب الديمقراطية الفاشلة في بلدان عديدة، ومنها تجربة العراق في العهد الملكي. ان نجاح الديمقراطية يرتبط بثقة الناس بالانتخابات، وتعبيرها عن طموحاتهم وتوقعاتهم، كما يرتبط بقدرة مرشحيهم المنتخبين على تحقيق الحد المقبول من متطلبات العدالة الاجتماعية، وسيادة القانون، وحفظ المال العام، وخدمة مصالح المواطنين...وبدون هذه الثقة قد تبقي الديمقراطية على مظاهرها الشكلية لبعض الوقت، ولكنها تخسر قدرتها على البقاء والاستمرار والتطور، بل قد تجلب هكذا ديمقراطية هزيلة المزيد من السخط والغضب عليها وتحميلها ما لا تحتمل من الاتهامات المعجلة بزوالها.
وبالعودة الى الإجابة عن التساؤل أعلاه قد تبدو البيئة التي تجري فيها الانتخابات البرلمانية القادمة مشوبة بالكثير من التعقيد والاضطراب واللايقين على المستوى المحلي والدولي، ولكن إذا ما قمنا بمقارنتها بالظروف التي أجريت فيها الدورات الانتخابية لسنة 2014 و2018 و2021 سنرى ان تلك الدورات أجريت في ظروف أكثر تعقيدا وخطورة، مما يعني ان هذه الدورة ستجري في ظرف داخلي أكثر استقرارا، وظرف دولي أكثر ميلا الى التهدئة لاسيما بعد انتهاء حرب غزة وتوقيع اتفاق السلام في شرم الشيخ.
وعليه من الأفضل للقيادات السياسية عدم استثمار هذه الظروف الحسنة نوعا ما في تسقيط بعضها البعض، وارباك الناخبين وتعريضهم للاتهام والتجريم بسبب مشاركتهم او عدم مشاركتهم في العملية الانتخابية، وانما عليها التركيز على نجاح التجربة الديمقراطية العراقية، وكسب الخيار الديمقراطي كخيار نهائي ووحيد للوصول الى السلطة والخروج منها، وبخلاف ذلك فان كل الخيارات البديلة غير مبشرة، سواء كانت احتجاجا شعبيا لا يوجد ما يضمن خروجه عن السيطرة او تغييرا سياسيا عنيفا لا يحترم الأطر القانونية في الوصول الى السلطة... فهذه الخيارات التي سبق للعراقيين تجربتها لن تعيد العراق الى المربع الأول سنة 2003 فحسب، بل قد تفتح الباب مشرعا امام تقسيمه وادخاله في نفق مظلم مجهول.
ان ما يحتاجه العراق اليوم ليس مواطنا واع بممارسة او عدم ممارسة حقه الانتخابي فحسب، بل يحتاج، أيضا، وبشكل أكثر الحاحا الى قيادات وقوى سياسية واعية بدورها في قيادة المواطن، واستعادة ثقته بالسلطات التي تحكمه، وبخياره الديمقراطي...قيادات لا تجعل حب البقاء بالسلطة مقدما لديها على مصالح الدولة والشعب، قيادات تعرف تماما مقتضيات الحكم، وتتقن فنونه، وتحسن إدارة الدولة بروح الفريق الواحد المنسجم.
ان غياب هذه القيادات عن المشهد السياسي العراقي، او ضعف دورها، وتصدر ما يناقضها من القيادات لهذا المشهد سيزيد التشرذم السياسي، والتشظي المجتمعي، وسيعمق المشاكل والأزمات القائمة ويضيف اليها مشاكل وأزمات جديدة أكثر خطورة، مما يرسخ حالة الإحباط الشعبي من السلطة ورموزها. لذ ينبغي على القيادات والقوى السياسية النافذة عدم جعل التجربة الديمقراطية العراقية مجرد مريض محتضر ينتظر الموت ولو بعد حين، بل عليها جعلها وليدا واعدا ينمو يوما بعد يوم ليصل الى مرحلة النضج والقوة والاحترام، فنجاح هذه التجربة سيمثل نجاحا لكل العراقيين بصرف النظر عن خلفياتهم الاثنية والعرقية، واختلافاتهم السياسية والفكرية اما فشلها وانهيارها فهو خسارة بالغة سيعاني منها، وسيتحمل وزرها الجميع.
اضافةتعليق