اذا كانت الديمقراطية – على اختلاف صورها - أرقى أشكال التعبير عن احترام الإنسان لذاته ولأخيه الإنسان؛ فلتكن الديمقراطية التي ننشدها ونعيها ونمارسها هي التي توفر لنا القدرة على تجاوز واحتواء اختلافاتنا واتخاذ قراراتنا وحكم انفسنا دون وصاية خارجية. وبكل احوال الديمقراطية وصيغها ومواصفاتها لن تكون هي غايتنا ومقصدنا ، بل هي الطريق المستنير الذي سنسلكه نحو مجتمع يزدهر فيه العقل وتسمو فيه الروح ويتعايش فيه الجميع تحت مظلة وطن واحد ومصير واحد
ليست الديمقراطية مجرد اختراعٍ سياسيٍ عابرٍ يكرس نسق الحكم ونتائج صناديق الاقتراع الصماء، بل هي منتج حضاري انساني سامي توج مسيرة مضنية من التطور والنضج الفكري والفلسفي الذي مرت به وبلغته المجتمعات البشرية عبر محطات تاريخية عدة، من اجل تحرير الفكر والروح من قيود الاستبداد وأغلال التسلط وتحصين الكرامة الإنسانية من تجاوزات السلطة؛ فغدت الديمقراطية ، تبعا لذلك ، مرآة الوعي البشري والإقرار الأسمى بأن الفرد هو مصدر السيادة وعلة وجود السلطة والضمانة المصونة لمشاركته الفعلية في اتخاذ القرار .
عند هذه المفازة وحول هذه الغاية من عصرنا الحاضر ، تفتق الفكر الإنساني عن وجه جديد وصورة اكثر اشراقاً وفاعلية وعصرية للديمقراطية تحت عنوان الديمقراطية التداولية (Deliberative Democracy))) حيث يتحول بموجبها ووفق الياتها، المواطن من قناة لشرعنة اختيار الحكام الى شريك فاعل في صياغة مصير الامة واتخاذ قرارتها عبر نافذة الحق بالتعبير والمشاركة الجادة في الحياة العامة ، لتصبح حياته العامة ملعباً لحريته ومسؤوليته وتقديره .
وبتقريب دائرة الضوء على فهم الديمقراطية التداولية، نجدها تتخذ عند (يورغن هابرماس) شكل "نموذج يشترط أن تكون الشرعية السياسية مستمدة من إجراءات التواصل التي تتميز بالحرية، والمساواة، والعلنية، وتهدف إلى التوصل إلى توافق عقلاني حول القواعد والمعايير التي يجب أن تحكم المجتمع." فالديمقراطية التداولية وفق هذا الوصف هي "نمط حياة اجتماعي وسياسي وحتى قانوني يتجاوز مفردة الانتخابات، ويتميز بالمساواة والمشاركة الفعالة والحرة من قبل جميع أفراد المجتمع في تحديد أهدافهم ووسائل تحقيقها بوصفها الالية المثلى لشرعنة ممارسة الحكم وليس انتخاب الحكام فحسب. فهي اذن تسعى الى اضفاء بُعد نوعي على العملية الديمقراطية من خلال التفكير التداولي والنقاش الحر المفضي الى افضل الخيارات والقرارات للمجتمع ، حيث لا تُعدّ عملية التصويت هي المصدر الوحيد للشرعية، بل يكتسب القرار شرعيته بشكل أساس من جودة العملية التي أدت إليه ؛ حيث يكون الهدف هو التوصل إلى قرارات أو حلول مقبولة عقلياً من قبل جميع المشاركين، وليس فقط تجميع اصوات الأغلبية العددية.
نستشف مما تقدم مجموعة عناصر وخصائص تميز هذا النوع من الديمقراطية عما سواه من صور الديمقراطية الأخرى تتقدمها خاصية التداول Deliberation) ) بوصفه القلب النابض لهذه الديمقراطية حيث يتم تبادل الحجج المقنعة حول قضية معينة بين الجموع ، بدلاً من مجرد التعبير عن التفضيلات أو المصالح بهدف الوصول إلى انضج الحلول والقرارات بحساب قوة الحجة والاقناع وليس الأغلبية العددية . في المقام الثاني تتميز الديمقراطية التداولية بكونها عملية مفتوحة ومتاحة لجميع المعنيين بالقرار على قدم المساواة التي تستمد جوهرها ومعناها من تساوي الفرص في تقديم الحجج والاستماع لها، وليس تساوي الأصوات او المراكز السياسية والقانونية المعتبرة ابتداء. بيد ان الشرط الأساس الذي يفرضه هذا النوع من الديمقراطية، يتركز في الفضاء الرحب العام الذي يسمح للجميع بالمشاركة والتفاعل من اجل بلوغ القرار بشفافية تامة وبلا مواربة؛ فلا مجال للغرف المغلقة والكواليس السرية ، فليس الحشد الكمي ما ترومه هذه الديمقراطية، بل الحشد النوعي والاغناء الفكري .
وفي المجتمعات المتنوعة او حتى المختلفة عرقيا وسياسيا ، لا تُعد الديمقراطية – مهما كان نوعها – مجرد رفاهية، بل هي ضرورة وجودية. . إنها الآلية التي تسمح بتصريف التناقضات والصراعات الاجتماعية والسياسية عبر قنوات سلمية، كالنقاش والتصويت، بدلاً من اللجوء إلى العنف أو الإقصاء، فتغدو بذلك بلسماً للجروح الوطنية ومنبعاً للتسامح وقبول الآخر.
اما في دول تعم فيها الانقسامات والصراعات المجتمعية والسياسية الحادة ، كالعراق ، تبرز الحاجة إلى مقاربات ديمقراطية اكثر فاعلية ، تتجاوز ترف اللعبة الديمقراطية التقليدية في صناديق الانتخابات والتعددية الفجة للاحزاب والكيانات ، لتكرس على أساس راسخ وفهم عميق، إطارًا لتقبل الاخر وتعلم الاستماع الفعال لرايه وتقديم الحجج لإقناعه ، في مسعىً نوعي واعد لتعزيز الشرعية، وبناء التوافق، ومعالجة التوترات المجتمعية عبر الحوار العقلاني والمشاركة الشاملة.
ان ما رشح من سنوات الممارسة الميدانية للديمقراطية التمثيلية في عراق ما بعد 2003 ، قد كرس سنة سيئة من السياسات القائمة على المحاصصة ؛ عندما تحولت العملية السياسية الى صراع ومزاد لتقاسم المغانم والموارد بين النخب والأحزاب ، ولم تكن الانتخابات – بوصفها اهم اليات هذه الديمقراطية - سوى الية سقيمة لاعادة انتاج تلك النخبة الفاسدة ، تحت مسمى التعددية ، باستخدام المال السياسي وأدوات السلطة .
ومع تعاظم مستويات الفساد في مؤسسات الدولة ، وتراجع مستوى الخدمات المقدمة للمواطن ، وهيمنة المصالح الفئوية الضيقة على حساب المصلحة العامة ، تلاشت – وبإيقاع متسارع- ثقة الشعب بالسلطة وشرعيتها بل وجدواها ايضا ، حتى وإن ارتكنت الى ادوات ومقاييس الديمقراطية التقليدية من انتخابات وتعددية وحرية تعبير ( نسبية ) ، فالمسافة غدت شاسعة جدا بين الحاكم والمحكومين في العراق ، ولم تعد أدوات تلك الديمقراطية البالية، قادرة على تقليصها او حتى توليد نمطٍ بديلٍ من الشرعية مهما قدمت العملية السياسية من ضمانات، الامر الذي يضعنا امام تحدي الإصلاح الجذري للعملية السياسية قبل الانهيار الكلي لمنظومة السلطة بعد تلاشي مفردات الشرعية والقوة التي تتعكز عليها في حسابات البقاء والمطاولة .
إن انتقال العراق نحو ديمقراطية أكثر استقراراً وعدالة يتطلب تحولاً نوعياً بل وجذريا من ديمقراطية تجميع المصالح والاصوات إلى ديمقراطية بناء التوافق ؛ اذ تقدم الديمقراطية التداولية – وفق هذا السياق - الإطار النظري والعملي الذي يركز على قوة الحجة، والشمول، والمساواة، لتتمكن النخب السياسية والمجتمع المدني في هذا البلد من إعادة تأسيس الفضاء العام وبناء قرارات ذات شرعية عميقة ومستدامة، تعكس حقيقة التنوع العراقي وتخدم مصالحه الوطنية العليا.
جدير بالذكر إن تبني آليات هذا النوع الجديد من الديمقراطية لا يلغي نظام الانتخابات، بل يثريه ويجعله أكثر قدرة على مواجهة تحديات دولة معقدة متعددة المكونات مثل العراق. كما انه لا يبتعد كثيرا عن الديمقراطية التوافقية وفق صيغها المثالية بحساب ان التوافق لا يكون بتقاسم المغانم بل بتوافر الحجج تحت مظلة المصلحة الوطنية العليا لجميع الأطراف ؛ فهذه الديمقراطية تشجع على تحويل المواقف من مصالح فردية ضيقة إلى تفاهمات وطنية. وعندما يرى المواطن أن القرارات تُتخذ بعد حوار علني وشفاف ومبرر عقلياً (الشرعية الإجرائية)، يستعيد ثقته – مجددا- بالعملية السياسية، حتى وإن لم يتفق بالضرورة مع كل قرار.
وبكل الأحوال والصيغ ، إن إشراك جميع المكونات في حوار حقيقي يسهم في ترميم شرعية النظام وجدواه ويغرس مرساته عميقا في الوجدان الوطني . وهذا المسعى لا يحقق تمام غايته ، مالم يستند الى تأسيس فضاء عام وطني عبر خلق آليات تداولية وقنوات حوارية (كـ "جمعيات المواطنين"، "لجان الحوار الوطني التداولي"، أو "الاستفتاءات التداولية") على قضايا مصيرية مثل إدارة الموارد، الإصلاح الاقتصادي، أو التعديلات الدستورية. هذه الآليات تخلق مساحات محايدة للتفاعل السياسي بعيداً عن ضغوط الأحزاب والنخب الحاكمة. فبدلاً من صراع الإرادات، يحدث تلاقح للأفكار. وبدلا من تقاسم المغانم سيتم تقاسم الرؤى المؤدية الى تعظيم المصلحة العامة التي تفيض على الجميع بالخير تحت مظلة الوطن والوطنية .
صفوة القول ومنتهاه، اذا كانت الديمقراطية – على اختلاف صورها - أرقى أشكال التعبير عن احترام الإنسان لذاته ولأخيه الإنسان؛ فلتكن الديمقراطية التي ننشدها ونعيها ونمارسها هي التي توفر لنا القدرة على تجاوز واحتواء اختلافاتنا واتخاذ قراراتنا وحكم انفسنا دون وصاية خارجية. وبكل احوال الديمقراطية وصيغها ومواصفاتها لن تكون هي غايتنا ومقصدنا ، بل هي الطريق المستنير الذي سنسلكه نحو مجتمع يزدهر فيه العقل وتسمو فيه الروح ويتعايش فيه الجميع تحت مظلة وطن واحد ومصير واحد .
• مراجع مختارة
- د. محمد عابد الجابري ، مسألة الديمقراطية ومسألة المنهج في الفكر العربي المعاصر ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 2009 .
- يورغن هابرماس،. نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول: عقلانية الفعل والعقلانية الاجتماعية. ترجمة: فتحي المسكيني، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020.
اضافةتعليق