ان الاثر التنموي للإنفاق العام ضعيف، مما يستلزم اعادة النظر في آلية الانفاق العام لينعكس بشكل حقيقي على الواقع وذلك من خلال التركيز على بناء رؤية اقتصادية واضحة وترتيب اولوية الانفاق قطاعياً واقتصادياً ومحاربة الفساد وتفعيل الجانب الاعلامي
رغم ضخامة الانفاق الفعلي على الوزارات الامنية والتربوية والصحية والبيئية إلا إن الأثر التنموي لم يكُن حقيقي بالمستوى المطلوب!
حيث توضح الادلة والمؤشرات ان مستوى الامن والصحة والبيئة والتعليم في العراق لم يتناسب وحجم الانفاق الفعلي مما يعني ان قنوات نقل الاموال وهيكلها تجاه تلك الوزارات لم تكُن سليمه بما يكفي.
الامن والدفاع
إذ بلغ الانفاق الفعلي، بشقيه الجاري والاستثماري؛ على وزارتيّ الداخلية والدفاع أكثر من 20 تريليون دينار عام 2023 وارتفع الى 21 تريليون عام 2024 ، ليحتل المرتبة الثانية بعد وزارة المالية.
تحتل وزارة المالية المرتبة الاولى في الانفاق الحكومي بواقع 31 تريليون دينار عام 2023 و27 تريليون عام 2024 لتأمين رواتب موظفي الدولة، والمنح والاعانات والفوائد، والرعاية الاجتماعية وغيرها من الالتزامات.
وتجب الاشارة إلى ان اعباء وزارة المالية كان يمكن تخفيفها لو تمّ اعتماد تحولاً اقتصادياً سليماً، يعزز من اقتصاد السوق والقطاع الخاص وتلبية العديد من الحاجات دون تدخل وزارة المالية.
ان وجود السلاح خارج سيطرة الدولة وتكرار الاغتيالات والنزاعات العشائرية وحصول بعض الهجمات الارهابية المتفرقة وغيرها، يُدلل على وجود خلل أمني لا ينسجم وضخامة الانفاق الفعلي على وزارتيّ الداخلية والدفاع.
وراء عدم الانسجام بين ضخامة الانفاق والواقع الأمني(الهش) أمرين:
الاول، تعثر التحول الاقتصادي، مما يعني زيادة البطالة وسهولة انزلاق العاطلين عن العمل للعنف (العشائري، الفصائلي أو غيرهما) فتضطر الدولة للأنفاق أكثر على الامن والدفاع لتحقيق الأمن!
الثاني، التركيز على الكم لا على النوع، إذ بلغ الانفاق الجاري، أكثر من 19 تريليون دينار عام 2023؛ الذي يُركّز على الكم البشري (رواتب ومخصصات)؛ أكبر من الانفاق الاستثماري، الذي يُركّز على النوع الأمني (التدريب النوعي والتكنلوجيا وغيرها)؛ حيث لم يتجاوز نصف تريليون دينار عام 2023! وكذا الحال بل وأسوء في عام 2024!!
ونظراً للهشاشة الأمنية أحتل العراق المرتبة 147 من أصل 163 دولة عام 2025 في مؤشر السلام العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام الامريكي.
التربية والتعليم
بلغ الانفاق الفعلي، بشقيه الجاري والاستثماري؛ 13.9 تريليون دينار عام 2023 ثم ارتفع ليبلغ 14.4 تريليون عام 2024.
لا يختلف هيكل الانفاق العام على التربية والتعليم عن هياكل المجالات الاخرى، إذ يعاني من اختلالاً كبيراً، لان نسبة الانفاق الاستثماري لم تتجاوز 1.5 % بينما نسبة الانفاق الجاري شكلت 98.5% من الانفاق العام الفعلي على التربية والتعليم عام 2023.
ولم يكن عام 2024 أفضل بل أسوء بحكم انخفاض نسبة الانفاق الاستثماري الى 0.84 % وارتفاع نسبة الانفاق الجاري لتشكل 99.16% من الأنفاق العام الفعلي على التربية والتعليم!
ان انخفاض الانفاق الاستثماري الفعلي على التربية والتعليم انعكس، وسنعكس بلا شك؛ على اداء التربية والتعليم، لان انخفاض الاستثمار فيهما يعني خلق بيئة غير جاذبة تربوياً وتعليمياً كنقص الابنية والمستلزمات (مختبر، حاسوب، اثاث وغيرها) او عدم صيانتها او تراجع برامج التدريب والتطوير وهكذا.
فمن شأن نقص أبنية المدارس على سبيل المثال يؤدي لزيادة التسرب بحكم الاكتظاظ وعدم استيعاب الطالب مما يؤثر على مستواه التربوي والتعليمي، فالانخفاض في الانفاق الاستثماري يؤثر سلباً على التربية والتعليم، وهذا ما يؤشر ضعف كفاءة الانفاق والاثر التنموي.
الصحة والبيئة
حيث بلغ الانفاق الفعلي على وزارتيّ الصحة والبيئة 8.568 تريليون دينار عام 2023، بلغ الانفاق الاستثماري منه 199 مليار دينار، أي ان نسبته 2.3%من الانفاق الفعلي على الوزارة، وأقل من 1% من الانفاق الاستثماري العام.
وفي الوقت الذي بلغ الانفاق الفعلي على هاتين الوزارتين 8.565 تريليون دينار عام 2024، بلغ الانفاق الاستثماري منه 226.7 مليار دينار عام 2024، أي نسبة الانفاق الاستثماري من موازنة الوزارتين لم يتجاوز نسبة 2.6%، وأقل من 1% من الانفاق الاستثماري العام.
وعند مقارنة حجم الانفاق الفعلي على الوزارتين مع الواقع سنجد ان الانفاق الفعلي لم ينعكس بالشكل المطلوب، إذ لازال القطاع الصحي وبالخصوص الحكومي يعاني الضعف مما يدفع بالناس للقطاع الصحي الاهلي أو السفر للخارج، وما يفسر ذلك الضعف هو اختلال توزيع الانفاق كما اتضح أعلاه.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للبيئة، حيث ان الانفاق الاستثماري على وزارة البيئة كان صفراً لعاميّ 2023 و2024، بينما الانفاق على الجانب التشغيلي استحوذ على كل الانفاق رغم محدوديته.
هذا يعني ان هناك اهمالاً واضحاً للجانب البيئي رغم أهميته محلياً وعالمياً، انعكس في مؤشر الاداء البيئي العالمي حيث احتل العراق المرتبة 172 من أصل 180 دولة عام 2024.
طبيعة الانفاق أعلاه، توضح ان هناك اختلالاً واضحاً على مستويين:
الاول، ان اولوية الانفاق ركّزت على الجوانب الامنية أكثر من تركيزها على الجوانب الانسانية، في حين ان التركيز على الجوانب الانسانية هو الذي يحقق الجوانب الامنية وبشكل جذري ومستدام.
الثاني، اولوية الاستهلاك على الاستثمار، إذ ان أغلب الانفاق بشكل عام يذهب نحو الجوانب التشغيلية لا الاستثمارية في كل الوزارات والوزارات محل الموضوع بشكل خاص، مما أفقد الاثر التنموي للإنفاق العام.
ولأجل استعادة الأثر التنموي للإنفاق العام يتطلب العمل على العديد من النقاط يمكن الاشارة لبعضها أدناه:
اولاً: الرؤية الاقتصادية، أي لابد من بناء رؤية اقتصادية واضحة المعالم، لان هناك علاقة وثيقة بين الرؤية الاقتصادية والانفاق العام.
ثانياً: اعادة ترتيب اولوية الانفاق قطاعياً، أي ان يتم توجيه الانفاق العام نحو الجوانب الانسانية بشكل أكبر من الجوانب الامنية، وبالخصوص الجوانب التربوية والتعليمية والصحية والبيئية.
ثالثاً: اعادة ترتيب اولوية الانفاق اقتصادياً، اي توجيه الانفاق نحو الاستثمار بشكل أكبر من الاستهلاك، خصوصاً في البنية التحتية، حيث ان الاستثمار في البنية التحتية يجعل الاثر التنموي أكبر واوضح.
رابعاً: محاربة الفساد، لان الفساد يمثل عقبة حقيقية ام تنفيذ المشاريع وبيئة الاعمال، فمحاربة الفساد ومكافحته يجعل بيئة الاعمال سهلة وتنفيذ المشاريع أسلس وبيان الأثر التنموي أسرع.
خامساً: تفعيل الدور الاعلامي، أي لابد من استخدام الاعلام لزيادة الوعي الاقتصادي لدى الجمهور كي يستقبل الاصلاحات الاقتصادية والمالية والتفاعل معها بشكل ايجابي.
خلاصة القول، ان الاثر التنموي للإنفاق العام ضعيف، مما يستلزم اعادة النظر في آلية الانفاق العام لينعكس بشكل حقيقي على الواقع وذلك من خلال التركيز على بناء رؤية اقتصادية واضحة وترتيب اولوية الانفاق قطاعياً واقتصادياً ومحاربة الفساد وتفعيل الجانب الاعلامي.
المصادر:
! - وزارة المالية، تقرير وزارة المالية لغاية عام 2023 و 2024، وكذلك المبالغ للاحقة.
!! - خالد عليوي العرداوي، لماذا يجب حصر السلاح بيد الدولة؟ مقال منشور على موقع مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية.
!!! - مؤشر الاداء البيئي، متاح على الرابط ادناه. https://epi.yale.edu/measure/2024/EPI
اضافةتعليق