ان الفجوة بين الطموحات المرسومة في المنهاج الوزاري والارقام المالية، تعكس وجود تحديات كبيرة تمثلت في زيادة الانفاق مقارنة بالإيراد، والانفاق الجاري مقارنة بالاستثماري، والايرادات النفطية بغير النفطية وتراجع البرامج الخاصة وزيادة الدين العام، ولأجل اصلاحها لابد من اتخاذ اجراءات تصحيحية مثل اصلاح دور الدولة في الاقتصاد، ربط الانفاق بالإنتاجية، اصلاح الجهاز الاداري لضمان استثمار الايدي العامل افضل استثمار وتفعيل دور القطاع الخاص لتقليص الاعتماد على الدولة وهنا ستقترب الطموحات المرسومة من الارقام المالية
تمثل الموازنة الخارطة المالية للدولة في سبيل تحقيق الأهداف المرسومة وفق المنهاج الوزاري الذي ترسمه الحكومة للوزارات بشكل عام. إذا ما كانت مسيرة الموازنة منسجمة مع المنهاج الوزاري هذا يدل على امتلاك الحكومة القدرة على تنفيذ منهاجها الذي رسمته منذ البداية والعكس صحيح. ولأجل معرفة ذلك لابد من مراجعة المنهاج الوزاري والموازنة الفعلية واجراء المقارنة بينهما وعندها سنلاحظ الفرق بينهما في سياق عنوان المقال. حيث يتضح من خلال المنهاج الوزاري ان الحكومة ذاهبة باتجاه الاصلاح المالي وتحسين الاداء المالي لكن الارقام المالية تعطينا قراءة كاشفة لمدى انحراف التنفيذ عن الاتجاه المرسوم.
توجهات المنهاج الوزاري
إذ اختص المحور الثاني عشر بالقطاع المالي والمصرفي وجاء في النقطة الاولى منه
“اعادة هيكلة الموازنة العامة وادارة المال العام لضغط الانفاق الاستهلاكي لصالح مناصرة المشاريع والبرامج الخاصة بالتنمية المستدامة وضغط الدين العام إلى أدنى حد ممكن، وتعظيم الايرادات واعتماد حسابات الكلفة/العائد في الانفاق الحكومي، ووضع الاسس للتحول التدريجي نحو موازنة البرامج والاداء المناصرة لدعم برامج التنمية في قطاعات مختلفة” وجاء في النقطة الخامسة منه اصلاح النظام الضريبي والجمركي وضبط المنافذ الحدودية وتعظيم ايرادات الدولة غير النفطية.
وفي النقطة السادسة منه حدد هدفاً معيناً للإيرادات النفطية في تمويل موازنة الدولة خلال ثلاثة سنوات الى 80% من خلال تنويع وتعظيم الايرادات غير النفطية.
هذه المحاور تعطي انطباعا واضحا عن التوجّه المالي والاقتصادي لحكومة السيد السوداني، ولكن قد يكون للأرقام المالية رأي آخر، لان الارقام المالية تُعد بمثابة اختبار لقياس ذلك التوجّه.
واقع الانفاق الفعلي
ارتفع الانفاق الفعلي من 142 تريليون دينار عام 2023 الى 150 تريليون دينار عام 2024، بمعنى ان الانفاق ارتفاع بنسبة 5.6%. وكانت الزيادة الأكبر من نصيب الانفاق الجاري الذي ارتفع من 118 تريليون عام 2023 الى 125 تريليون عام 2024، أي ارتفع بنسبة 6% تقريباً. مقابل زيادة طفيفة في الانفاق الاستثماري من 24 تريليون عام 2023 الى 25 تريليون عام 2024، أي ارتفع بنسبة 4%.
ورغم تعهد الحكومة بدعم البرامج الخاصة، تراجع الانفاق عليها من 1060 مليار دينار عام 2023 الى 887 مليار دينار عام 2024، بانخفاض يزيد عن 16%! وهو ما يناقض التوجُه المُعلن في المنهاج الوزاري.
البرامج الخاصة هي البرامج التي تركز على تحقيق الهدف بشكل مباشرةً مثل مكافحة الفقر وإنعاش الاهوار وانشاء الابنية المدرسية وغيرها.
يشير ارتفاع الانفاق الفعلي بشكل عام، لاسيما الجاري بوتيرة أعلى من الاستثماري، الى خلل في أولويات الصرف، وهو ما يضعف فرص بناء ثقة مستدامة بين المواطن والحكومة.
من الاسباب الرئيسة وراء ارتفاع الانفاق الجاري زيادة الرواتب من 47 تريليون دينار عام 2023 الى 60 تريليون دينار عام 2024، أي زادت بأكثر من 27% خلال سنة واحدة! وهي لا تخلو من دوافع سياسية بالدرجة الاولى لان الدولة تعاني بالأساس من بطالة مقنعة.
كذلك استحواذ وزارات معينة كالداخلية والدفاع والصحة والتربية؛ على نسبة كبيرة من الرواتب (33 تريليون أي أكثر من 60%) دون أثر تنموي ملموس على ارض الواقع، يعطي دلالة واضحة على سوء التوظيف واستمرار استنزاف الموارد.
كما ان زيادة التحويلات الاجتماعية كان لها دوراً في زيادة الانفاق الجاري، حيث ارتفعت الموازنة الجارية لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية من 4.8 تريليون دينار عام 2023 الى 6.3 تريليون دينار عام 2024، أي زادت بأكثر من 31% عن عام 2023.
الايراد الفعلي
في المقابل، ارتفعت الايرادات الفعلية من 135 تريليون عام 2023 الى 140 تريليون دينار عام 2024، اي ارتفعت بنسبة 3.7%. ورغم التحسن البسيط في الايرادات غير النفطية من 7% عام 2023 الى 9% عام 2024،لازال الاعتماد على الايرادات النفطية مرتفعاً (91% عام 2024) وهذا أقل من مستوى الطموح المُحدد في المنهاج الوزاري وهو 80%! وقد يتبادر الى الذهن ان الهدف المحدد من المُقرر أن يتحقق في غضون الموازنة الثلاثية ولم تنتهي بعد الموازنة الثلاثية.
الحقيقة ان المدة الزمنية لم تنتهي بعد، ولكن هي على وشك الانتهاء ولازالت جداول الموازنة تصارع الولادة من الحكومة رغم المطالبة بأرسالها لمجلس النواب لأجل مناقشتها واقرارها.
ان تأخر ارسال جداول موازنة 2025 بحد ذاته يثير الشكوك بجديّة التوجّه المالي والاقتصادي للحكومة، لان تأخير ارسال جداول الموازنة لا ينسجم ومسألة مصداقية التوجّه، خصوصاً وان الشأن المالي والاقتصادي يتطلب المزامنة والالتزام بالتوقيتات الدستورية لبعث رسائل اطمئنان لجميع المتعاملين في الاقتصاد.
الموازنة الفعلية
عند ملاحظة الفرق بين الانفاق الفعلي البالغ 142 تريليون دينار والايراد الفعلي البالغ 135تريليون دينار عام 2023، نجد ان العجز الفعلي هو 7 تريليون دينار، بمعنى ان الدولة انفقت أكثر مما تستحصل بقدر هذا الرقم.
وكذا الحال بالنسبة لعام 2024، حيث انفقت الدولة أكثر مما تستحصل بقدر 10 تريليون دينار عام 2024 لان الانفاق الفعلي هو 150 تريليون والايراد الفعلي هو 140 ترليون دينار.
ان العجز الفعلي الناجم عن الفرق بين الانفاق الفعلي والايراد الفعلي ارتفع من 7 تريليون دينار عام 2023 الى 10 تريليون دينار عام 2024، مما يعني ارتفاع الاقتراض المالي والنتيجة زيادة الدين العام وليس انخفاضه الى أدنى حد ممكن كما مُثبت في المنهاج الوزاري!
اذ ارتفع الدين العام الداخلي من 70 تريليون دينار نهاية عام 2023 (1) الى 78 تريليون دينار في الفصل الثالث من عام 2024 (2).
مما تقدم، يستلزم العمل على مراجعة المنهاج الوزاري من ناحية والارقام المالية من ناحية أخرى وذلك لخلق اتساق بينها وتحقيق الاهداف المطلوبة من ناحية ثالثة.
المنهاج والتحول والموازنة
ان تشخيص الواقع بشكل دقيق يسهم في رسم المنهاج الوزاري بشكل دقيق ايضاً فيما يتعلق بالموازنة الفعلية في ظل تعثر التحول الاقتصادي. إذ ان هناك علاقة وثيقة بين الموازنة والتحول الاقتصادي، أي كلما كان التحول الاقتصادي أسرع كلما انعكس على اداء الموازنة بشكل أكبر خصوصاً من ناحية الانفاق الجاري والايرادات والدين العام والبرامج الخاصة. فالعمل على تذويب كل ما يعرقل التحول الاقتصادي سيجعل الموازنة أكثر اتساقاً وتعبيراً والمنهاج الوزاري، ويمكن اعتماد مجموعة خطوات لتحقيق ذلك منها:
اولاً: رسم دور الدولة في الاقتصاد بشكل واضح وتبقى الادوار الاخرى للقطاع الخاص والمجتمع المدني.
ثانياً: العمل على ربط الاجور والمرتبات والامتيازات بالإنتاجية، وبهذا يكون الانفاق العام انتاجي لا استنزافي.
ثالثاً: تفعيل الدوام المتواصل(شفتات) في دوائر الدولة وذلك لمعالجة البطالة المقنعة وزيادة الانتاجية وتحقيق الايرادات المالية وتقليل العجز والدين العام.
رابعاً: خلق بيئة محفزة للاستثمار الوطني وجاذبة للاستثماري الاجنبي، مما ينعكس على خلق فرص العمل وتقليل البطالة وانخفاض المطالبة بالتعيين وانخفاض الانفاق الاجتماعي.
خامساً: اشراك الجامعات والمراكز البحثية والخبراء في صياغة المنهاج الوزاري ليكون أكثر عملياً.
خلاصة القول
ان الفجوة بين الطموحات المرسومة في المنهاج الوزاري والارقام المالية، تعكس وجود تحديات كبيرة تمثلت في زيادة الانفاق مقارنة بالإيراد، والانفاق الجاري مقارنة بالاستثماري، والايرادات النفطية بغير النفطية وتراجع البرامج الخاصة وزيادة الدين العام، ولأجل اصلاحها لابد من اتخاذ اجراءات تصحيحية مثل اصلاح دور الدولة في الاقتصاد، ربط الانفاق بالإنتاجية، اصلاح الجهاز الاداري لضمان استثمار الايدي العامل افضل استثمار وتفعيل دور القطاع الخاص لتقليص الاعتماد على الدولة وهنا ستقترب الطموحات المرسومة من الارقام المالية.
مصادر تم الاعتماد عليها
1 - البنك المركزي العراقي، التقرير الاقتصادي السنوي لعام 2023، ص37.
2 - البنك المركزي العراقي، التقرير الاقتصادي للفصل الثالث 2024، ص22.
اضافةتعليق