مسؤولية العلماء في الزمن الصعب

شارك الموضوع :

مهما كانت الأسباب التي تحول دون قيام العلماء بدورهم، فالحقيقة التي لا جدال فيها هي ان العلماء هم حراس الوعي والضمير والحق في المجتمع، وعدم قيامهم بما يجب عليهم يكبد المجتمع -افرادا ومؤسسات- اضرارا كارثية تؤثر على حاضره ومستقبله. ومن المفيد ان يدرك العلماء انه في الوقت الذي يُطالب فيه المجتمع باحترام دورهم، عليهم ايضا ان يكافحوا للقيام بما هو متوقع منهم، فهم قوى البناء والتغيير والنهوض داخل المجتمع، ومن غير المقبول ان يكونوا جزء من قوى تهديمه وجموده وانتكاسه الحضاري، فالتاريخ لن يرحمهم، لاسيما في أوقات الانحراف والازمات الكبرى

تواجه المجتمعات في مسيرة حياتها الكثير من الأوقات الصعبة، لمرورها ببعض الظروف الاستثنائية، وما تنطوي عليه هذه الظروف من مشاكل وازمات وتحديات قد تربك حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فتتركها في دوامة الاضطرابات الفكرية والسلوكية، التي يترتب عليها -أحيانا- انتشار الظلم، والفساد، والانحراف، واللايقين، والخوف، وتمزق الثقة بين الناس، مما يدل على وجود اعتلال ما يصيب المجتمع، بينيا وعموديا، على مستوى الافراد والمؤسسات، وكلما طال امد هذا الاعتلال كلما تسارعت خطى الذهاب نحو الانحدار، والتفكك، والضعف، والفوضى. ولمنع الوصول الى هذا المصير المرعب تكون حاجة المجتمع ملحة الى العلماء؛ لتحمل مسؤولية إنقاذه، ومعالجة اعتلاله، واستعادة قدرته على البقاء والاستمرار، ومن ثم الشفاء والتطور.

لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله إشارة مهمة للغاية حول دور العلماء في الزمن الصعب، من خلال قوله: " إذا ظهرت البدع في أمتي فعلى العالم أن يُظهر علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله". لقد ذهب الفهم النخبوي والشعبي لهذا الحديث -غالبا- باتجاه ربطه بعالم الدين فقط، وهذا الفهم قاصر بشكل كبير وغير موفق، ولا يأخذ البعد الشامل لمفهوم العالم في حياة الناس، كما لا يأخذ بنظر الاعتبار التطورات المعاصرة للبشر وما فيها من تشابك وتعقيد. ان الأوقات الصعبة ليست دائما ذات بعد ديني، ليكون عالم الدين وحده مسؤولا عن معالجتها والتصدي لها، هذا من جانب. ومن جانب آخر، يُحمل فهم العالم بعالم الدين وحده الأخير فوق طاقته في وقت يتطلب تظافر جهود جميع العلماء في كل المجالات للقيام بدورهم، وتحمل مسؤوليتهم الأخلاقية والإنسانية. 

وعليه، فان مفهوم العالم هو مفهوم واسع، فهو يشمل العالم في الدين، كما يشمل العالم في السياسة والاقتصاد والإدارة والطب والهندسة والاجتماع والامن والدفاع وغيرها، ففي كل مجال من هذه المجالات هناك تحديات تتطلب من العلماء المتخصصين التصدي لها بقوة وامانة وإخلاص لمساعدة الناس على تجاوزها ، فعلى سبيل المثال عندما اجتاحت جائحة كوفيد 19 العالم احتاج الناس الى الأطباء والممرضين وعلماء الادوية لمساعدتهم في مكافحة هذا الوباء، كما احتاجوا الى علماء الدين والاجتماع والاقتصاد والسياسة لتوفير الدعم النفسي والروحي والمادي لهم في المحنة التي مرت بهم، ولو تراجع هؤلاء العلماء عن واجبهم لاستفحل الوباء وعجز الناس عن محاربته وتلافي تبعاته. كذلك الحال في وقت الكوارث الطبيعية، والاستبداد السياسي، والانحراف القيمي، وفساد الإدارة والمؤسسات ...الخ، فكل هذه الأمور تتطلب من العلماء المتخصصين ان يشمروا عن سواعدهم، ويضعوا علومهم النظرية موضع التطبيق لخدمة مجتمعاتهم، اما سكوتهم او تراجعهم عن القيام بدورهم فليس خيارا مفيدا؛ لأنهم بهذا الخيار يخونون الأمانة العلمية والاخلاقية الملقاة على عاتقهم.

ان العالم، أي عالم، دوره محوري في حياة المجتمع، فهو في وقت الرخاء يلعب دور المنذر والكاشف لما ينبغي ان يفعله الناس، للحفاظ على استقامتهم وقوتهم وتقدمهم، وهذا ما يستنبط من قوله تعالى:"... فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (سورة التوبة: 122). اما في وقت الشدة فهو يلعب دور المصلح والمحارب الذي يقود الناس الى سبل أمانهم وخلاصهم من المحن والابتلاءات التي تمر بهم؛ لعلمه بأسباب هذه المحن والابتلاءات وكيفية مواجهتها والتغلب عليها. 

ولكن ما يؤسف له ان بعض العلماء لا يدركون دورهم العظيم في حالي الرخاء والشدة، فيتخلون عن القيام بهذا الدور لأسباب عديدة، منها: قوة الانحراف والتردي الذي يمر به المجتمع، مما يعرضهم الى ضغوط سياسية واجتماعية معادية من قبل قوى لا تجد من مصلحتها قيام العالم بدوره. او لتعلق بعضهم بالامتيازات والمصالح التي تفرضها اغراءات السلطة والنفوذ، فيسكتون عن قول الحق إذا شعروا انه سيتسبب بفقدانهم لامتيازاتهم ومصالحهم. او لانسحابهم من حياة المجتمع بسبب وجود بيئة غير مناسبة لا تحترم دورهم، ولا تأخذ بمشورتهم واطروحاتهم. او لتطرف بعضهم وتركيزهم على أنفسهم بشكل مبالغ فيه، وعدم ايمانهم بحقيقة ان العلوم تتقدم بالتلاقح، وان البحث عن الحقيقة في أي مجال علمي يتطلب المشاركة وتبادل الرأي والعمل الجماعي المشترك. ومؤخرا ظهر سبب أخر مرتبط بما نسميه التخندق داخل التخصص، أي ان بعض العلماء يتسورون بتخصصهم الدقيق، وعملهم الوظيفي المباشر معتقدين ان هذا يعفيهم من مسؤوليتهم اتجاه المجتمع، فالمهم لديهم ابحاثهم واعمالهم وطموحاتهم الشخصية، ولا يخرجون من خنادقهم واسوارهم الا عندما يشعرون بتعرضها للتهديد. 

ومهما كانت الأسباب التي تحول دون قيام العلماء بدورهم، فالحقيقة التي لا جدال فيها هي ان العلماء هم حراس الوعي والضمير والحق في المجتمع، وعدم قيامهم بما يجب عليهم يكبد المجتمع -افرادا ومؤسسات- اضرارا كارثية تؤثر على حاضره ومستقبله. ومن المفيد ان يدرك العلماء انه في الوقت الذي يُطالب فيه المجتمع باحترام دورهم، عليهم ايضا ان يكافحوا للقيام بما هو متوقع منهم، فهم قوى البناء والتغيير والنهوض داخل المجتمع، ومن غير المقبول ان يكونوا جزء من قوى تهديمه وجموده وانتكاسه الحضاري، فالتاريخ لن يرحمهم، لاسيما في أوقات الانحراف والازمات الكبرى.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية