ترك عدم انعقاد مجلس النواب لمرتين بسبب عدم تحقق النصاب لمنح الثقة للحكومة المؤقتة التي تكلف بتشكيلها السيد محمد توفيق علاوي، آثار سيئة واراء وتحليلات تشاؤمية بشكل عام. ولكن – ومن وجهة نظر متواضعة – هناك قراءة اخرى لم يتوافر عليها الوعي الجمعي المتابع. وطرحت استفهامات واشكالات فيها اتهام للقوى السياسية الشيعية من انها رغم قدرتها على تحقق النصاب ومن ثم التصويت بمفردها على الحكومة المؤقتة، الا انها لم تفعل ذلك. وفحوى الاتهام انها قوى نفعية اختلفت مصالحها في تشكيلة الحكومة المؤقتة بين من ضَمن مصالحه وبين من فقد جزءا منها.
عملية منح الثقة للسيد محمد توفيق علاوي وحكومته وبرنامجه الحكومي للمرحلة المؤقتة كانت امام مسارين:
الاول: قيام القوى الشيعية واهمها (سائرون والفتح) التي اقترحته كمرشح لتشكيل الحكومة المؤقتة، بتجميع اغلبية بسيطة داخل مجلس النواب والتصويت لمنح الثقة للحكومة المؤقتة من دون الحاجة الى التحالف الكردستاني والاحزاب السنية. كما حصل في التصويت على توصية الحكومة بإخراج القوات الاجنبية من العراق.
الثاني: وهو ما حصل فعلا من تشتت القوى السياسية حتى داخل الاحزاب والتحالفات الطائفية (السنية والشيعية) وبالتالي انتجت مواقف رافضة لمنح الثقة لحكومة المؤقتة ولم يتحقق النصاب على مدى جلستين كما أسلفنا.
والسؤال هو كيف نقرأ عدم تحقق (المسار الاول) وتحقق (المسار الثاني)؟
بداية نشير الى ان النظام السياسي في العراق بعد عام 2003 بُنيَ على اساس تشاركي بين الاطراف الطائفية والعرقية الكبيرة عبر احزابها وتياراتها السياسية وهي (الاحزاب الشيعية، والاحزاب السنية، والاحزاب الكردية). وبالتالي ترى كل هذه الاحزاب انها لابد ان يكون لها دور في القرار السياسي او اي متغير يستجد، ولا ينبغي ان ينفرد احزاب مكون واحد بالقرار حتى لو كان هذا المكون يملك الاغلبية في مجلس النواب وبإمكان احزابه – إذا ما توافقت – تمرير اي قانون او قرار نيابي او التصويت على تشكيلة حكومية.
نعم حدثت سابقتين في هذا الإطار: الاولى، تصويت احزاب المكون الشيعي على مشروع قانون الموازنة الاتحادية لعام 2013 وبمشاركة كبيرة من اعضاء بعض احزاب المكون السُني. الامر الذي اثار حفيظة احزاب المكون الكردي. والثانية، تصويت اغلبية احزاب المكون الشيعي على قرار نيابي بالتوصية للحكومة العراقية المستقيلة للبدء بإجراءات انسحاب القوات الاميركية من العراق مطلع كانون الثاني الماضي. وعلى الرغم من ان هذا التصويت اُعتبر تصويت جزئي لمكون واحد، الا انه اثار حفيظة قوى التحالف الكردستاني والقوى السياسية السنية وأبدوا معارضتهم للقرار النيابي. وكانت خطوة انفعالية غير مدروسة ولا محسوبة النتائج لا على مستوى الداخل ولا على مستوى الخارج. اذ ان التصويت أرسل رسائل مخيفة لطرفي المعادلة الاخرين (الاكراد والسُنة) من ان ذلك اقصاء لرأيهم، وبالتالي كان ربما يقود الى الاعتداد بالنفس والبحث عن دور سياسي على مستوى المكون وهذا يقود تدريجيا الى تقسيم البلاد وانهيار وحدته.
لذا، فأن عدم تحقق اجماع شيعي لمنح الثقة للحكومة المؤقتة كان أفضل من ان يحصل العكس لأنه سيُذكي مضمون الرسالة التي بعثتها القوى الشيعية سابقا وهي التصويت على انسحاب القوات الاميركية من العراق، وسيعزز خصوصية كل مكون على المستوى السياسي والذي ينسحب حتما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وحينها تكون البلاد – وبمؤازرة الاوضاع الاقتصادية الصعبة وانخفاض اسعار النفط، واستمرار تهديد داعش الارهابي، وطبيعة المواقف الدولية-على مقربة من التقسيم على اساس طائفي وعرقي.
الامر الاخر، لو تحقق التصويت الفئوي الجزئي لمنح الثقة للحكومة المؤقتة، فسيكون رسالة مخيفة للجمهور والرأي العام لدى المكونات السنية والكردية يشعر من خلالها ابناء تلك المكونات ان القوى السياسية الشيعية تريد الاستئثار بحكم البلاد. وبما انها قوى دينية ومسيطر على اغلبها واكثرها تأثيرا في مؤسسات الدولة، من قبل نظام ولاية الفقيه الايراني، فأنها تسعى لفرض نظام ولاية فقيه في العراق، فأنه سيدفع ابناء المكونات الكردية والسنية الى مؤازرة مواقف بعض قواهم السياسية في الانفصال او التقسيم.
واما ما حصل من عدم منح الثقة للحكومة المؤقتة لعدم تحقق النصاب مرتين، فله دلالات معينة مهمة في المرحلة الحالية وهي مرحلة ما بعد احتجاجات تشرين الاول الماضي والتي تختلف كثيرا عن مرحلة ما قبل تشرين الاول 2019.
أحد هذه الدلالات ان قيادات التحالفين النيابيين الاكبر في مجلس النواب (سائرون والبناء) لم يعد لهم نفس القدرة والامكانية على تجميع القوى الاخرى وكسب تأييديها للتصويت على الحكومة المؤقتة كما حصل مع مرشحهم التوافقي وغير المنتخب عادل عبد المهدي بعد الانتخابات التشريعية في ايار 2018.
الدلالة الاخرى – وهي ايضا من نتاجات الحركة الاحتجاجية التشرينية - ان اكبر تحالفين نيابيين (سائرون والبناء) والتي ضمت احزابا وتيارات مختلفة طائفيا وفكريا، لم تعد الاحزاب والتيارات بداخل كل منهما متماسكة، ولم يعد معيار المصلحة الحزبية (تقاسم المغانم) يؤتي ثماره، كما كان، في لملمة الكلمة والموقف تجاه التصويت على منح الثقة، بل سيطر على سلوكياتها ( اي الاحزاب والتيارات) عدم الاتزان والخوف من موجة الاحتجاجات التي لم ينفع معها اي اجراء (بالقوة او الخداع) لتقويضها، حتى بات واضحا ان شباب الساحات اكثر وعيا واكثر اتزانا في المواقف واكثر التزاما بنظام الدولة واطرها القانونية، مقارنة بتلك التيارات والاحزاب التي تعالت على توفر قراءة سياسية موضوعية للحركة الاحتجاجية.
دلالة اخرى، بعد الانتخابات الاخيرة، شكل توافق سائرون والبناء قوة كبيرة تمكنت من تجاوز الدستور بموضوع الكتلة النيابية الاكثر عددا (م/76 من دستور 2005 النافذ) وجاءت بعادل عبد المهدي الغير مرشح في الانتخابات ليشكل الحكومة. وهي الان امام مشكلة معقدة في اختيار مرشح بدلا عن محمد توفيق علاوي. ومنبع هذه المشكلة، ان التحالفين سيعودان الى مشكلة وهي من منهما الكتلة الاكثر عددا بعد التشظي في المواقف بين التيارات والاحزاب تجاه التصويت لحكومة محمد علاوي. وعلى الرغم من ان هذه المشكلة ادخلت البلاد في تعقيد
الدلالة الاهم ان هذه التطورات في المواقف اظهرت مدى سطحية وزيف التحالفات النيابية والتي بُنيت على اساس مصالح حزبية ومغانم المناصب وليس على اساس منظومة فكرية ورؤية لبناء الدولة ومواجهة الازمات. كما ان بعض التحالفات سرعان ما انفرط عقدها بعد انشغال الفاعل الاقليمي الراعي لها وداعمها سياسيا بأزماته الداخلية كما حصل في تحالف البناء.
هذه القراءة تستوجب من القوى والاحزاب ولاسيما الاسلامية التوافر على قراءة موضوعية لواقع النظام السياسي وطبيعة معادلة الصراع والتنافس الجيوسياسي الاقليمي والدولي في المنطقة، وان يعملوا على التواصل مع مصلحة بلدهم وجماهيرهم عبر الاستجابة لمطالب المحتجين والابتعاد عن اساليب الخداع واستخدام العنف ضد ساحات الاحتجاج، واجراء انتخابات تشريعية مبكرة وجعل الحكومة وباقي السلطات هي المالك الوحيد للقوة ومن صلاحياتها فرض القانون، لتصحيح المسار. اذ ان الزمن الحالي هو زمن الدولة الحديثة التي يعيش في ظلها ابناء مختلف المكونات على اساس المواطنة، ولهذه الدولة حدود واقليم جغرافي محدد، والحكومة ومؤسساتها وباقي السلطات داخل الدولة هي المالكة لحق الاكراه الشرعي ولا يمكن ان يوازيها فواعل خارج اطارها.
ونشير الى امكانية الخروج من الوضع الراهن مفاده ان يبادر نواب المحافظات المنتفضة والذين يفوق عددهم 190 نائبا – وبمساندة النواب الوطنيين من المحافظات الاخرى -ويتحرروا من سلطة زعاماتهم ويشكلوا تجمعا نيابيا ضاغطا والافادة من قائمة الـ (170) نائبا والذين خطوا خطوات مهمة واكمال مسيرتهم، لتصحيح الاوضاع ودعم مرشح مستقل لتشكيل حكومة مؤقتة واستكمال المراحل التشريعية والامور الفنية لقانون الانتخابات الذي صوت عليه مجلس النواب مؤخرا والتمهيد لإجراء انتخابات مبكرة وعبور الازمة الراهنة.