واجهت السياسة النقدية في العراق بعد عام 2003 تحديات خطيرة وكبيرة كانت في مقدمتها السيطرة على التضخم الجامح الذي ضرب الاقتصاد العراقي جراء السياسات الخاطئة التي تبانها النظام البائد، إذ كانت الفرضية التي تحكم الاقتصاد العراقي قبل عام 2003 قائمة على مسايرة متطلبات التمويل بالعجز من خلال آلية الربط بين عرض النقد وعجز الموازنة، وعليه ازداد عرض النقد من 24.6 مليار دينار ليصل الى نحو 5.8 ترليون دينار لغاية عام 2003، وارتفع سعر الصرف ليصل الى 1936 دينار لكل دولار في عام 2003، وارتفع التضخم من 3.6 في عام 1990 ليصل الى 7000، في حين شكلت الإيرادات العامة الممولة بالتمويل التضخمي أو ما يسمى بعائد الإصدار النقدي Seignior Age والذي زاد بأكثر من 85% من إيرادات الموازنة في معظم سنوات عقد التسعينات لغاية 2003 (1) . وهكذا ورث البنك المركزي العراقي ما بعد عام 2003 اقتصاد هش يعاني من مشاكل هيكلية وتضخم جامح وضغوطات فضلاً عن مديونية عالية وارصدة مجمدة.
وبموجب القانون بات البنك المركزي مستقلاً منذ العام 2004 وأصبح لا يمثل رافعة مالية لتمويل العجز على غرار ما كان يحدث قبل 2003 واستطاع السيطرة على السيولة وتحقيق الاستقرار السعري والذي كان ولا زال الهدف الرئيس لها من خلال نافذة بيع العملة، وفي هذا السياق استطاع بناء احتياطيات كبيرة من العملة الأجنبية أدت الى تحقيق الاستقرار وتقليص احتمالات تدهور أسعار الصرف وتغطية الاستيرادات الى جانب كونها مؤشر على قدرة الدولة على أداء التزاماتها الخارجية.
وبتوجيه من صندوق النقد الدولي اعتمد البنك المركزي العراقي نظام الربط الزاحف، وبدأ برفع قيمة العملة تدريجياً ليصل الى 1200 دينار لكل دولار، وقد مر نظام سعر الصرف بعد عام 2003 بثلاث مراحل هي(2)
• نظام الصرف crawling peg للمدة 2004-2008
• نظام الصرف conventional peg للمدة 2009-2017
• نظام الصرفsoft conventional peg للمدة 2018- ولا يزال العمل به
وبحسب تصنيف صندوق النقد الدولي لأنظمة سعر الصرف يحدد نظام الصرف بالعراق بنظام الصرف الثابت التقليدي conventional peg) ) للمدة 2009-2017 وبنطاق تذبذبات مرتفع أكثر من 2% وهو ما يعكسه وجود الفجوة بين السعر الرسمي والسوقي والتي تمثل استنزافاً للموارد الاقتصادية في البلد، في حين تم تصنيف نظام الصرف للمدة 2018 وحتى آذار 2020 بنظام الصرف الثابت الناعم التقليدي Soft conventional peg والذي من شروطه أن تكون حدود التقلبات المقبولة بـ 2% خلال 6 أشهر وبعدها تكون حدود التقلبات 1%، وهو يعكس اختفاء شبه تام للفجوة مما يؤشر أعلى مستويات الاستقرار النقدي.
وقد عاشت السياسة النقدية في العراق خلال السنوات السبع الماضية تحديات أخرى جديدة أتت في مقدمتها تراجع إيرادات النفط بشكل حاد خلال المدة (نهاية 2014-2016) نتيجة الصدمة المزدوجة التي عاشها الاقتصاد العراقي (انخفاض أسعار النفط وتنظيم داعش الإرهابي) والتي تركت هذه الازمة المزدوجة آثاراً كبيرة عمقت من مشكلاته المتفاقمة، وكانت الخسائر الناجمة عن النزاع هائلة، إذ تسبب الصراع في انكماش GDP من دون النفط خلال المدة 2015-2018 وتمثل الضرر في تدمير البنى التحتية والأصول وتعطل التجارة، وتوقف الاستثمارات لانعدام الثقة لدى المستثمرين، وزيادة العجز، وبحلول عام 2017بلغت الخسائر التراكمية في الناتج غير النفطي ما يقارب 124 ترليون دينار عراقي، أي ما يعادل %72 من GDP لعام 2013و %142من GDP غير النفطي.
ومن ثم جاءت جائحة كورونا وما تلاها من اغلاق عام كبير وتوقف لمعظم الأنشطة الاقتصادية نتيجة لإجراءات التباعد الاجتماعي، لتشهد أسواق النفط العالمية انخفاضاً بلغ أكثر من 50% من قيمته لتنعكس بشكل سلبي على أداء الاقتصاد العراقي، وقد راكمت تلك الأوضاع من حجم الضغوطات التي يعاني منها الاقتصاد العراقي، وعليه قررت السلطات النقدية والمالية تغيير سعر الصرف من 1170 دينار لكل دولار الى 1450 دينار لكل دولار، في محاولة لمواجهة الازمة والتخفيف من حدة آثارها وتلبية متطلبات واحتياجات السوق من العملة الأجنبية لتمويل الأنشطة الاستيرادية والحفاظ على استقرار سعر الصرف.
واتصالاً بما سبق، انعكست هذه الأوضاع بشكل جلي وواضح على معامل الاستقرار النقدي وقد حاولت السلطات النقدية الحفاظ على الاستقرار النقدي وبما يتوافق مع الأهداف الاقتصادية الكلية
ويفسر معامل الاستقرار النقدي بشكل واضح الضغوط التضخمية (الفجوة التضخمية التي يعاني منها الاقتصاد) إذ إن عدم التناسق بين الزيادة في كمية النقود مع الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي سيؤدي الى اختلال التيار النقدي وتيار العرض من السلع والخدمات مما يدفع الأسعار نحو الارتفاع المستمر، وكلما اقترب معامل الاستقرار النقدي من الواحد ازدادت حالة الاستقرار النقدي، وكلما كانت قيمته مساوية للواحد فهذا يعني حصول استقرار نقدي، وكلما زاد عن الواحد فهذا يعني ان هناك ضغوط تضخمية وارتفاعات في الأسعار ، في حين اذا كان اقل من الواحد الصحيح يعني تلاشي القيود التضخمية (3)، ويوضح الجدول الآتي الضغوط التي واجهها الاقتصاد العراقي خلال المدة نهاية 2014-2020
جدول (1) معامل الاستقرار النقدي والضغوط التي واجهها الاقتصاد العراقي خلال المدة 2015-2020
الجدول من عمل الباحث بالاستناد الى:
- البنك المركزي العراقي، تقارير السياسة النقدية، اعداد مختلفة.
- البنك المركزي العراقي، على الرابط https://cbiraq.org/SeriesChart.aspx?TseriesID=200
من خلال ملاحقة بيانات الجدول (1) يتضح، إن الاقتصاد العراقي قد واجه أوضاع غير مستقرة تارة انكماشية وتارة أخرى تضخمية بسبب افرازات الازمات المزدوجة واختلال الهيكل والقاعدة الإنتاجية للاقتصاد، وكانت معدلات نمو السيولة المحلية M2 (عرض النقد بالمفهوم الواسع) لا يواكب معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي مما أدى بالنتيجة الى اختلال التوازن بين التيار النقدي والتيار السلعي مسبباً حدوث فجوة تضخمية احياناً وفجوة انكماشية احياناً أخرى، فبعدما عاني الاقتصاد العراقي من تبعات الازمة المزدوجة خلال المدة 2015-2017 انعكست بشكل جلي في فرض ضغوط انكماشية.
وخلال المدة 2018-2021 ارتفعت معدلات نمو السيولة المحلية بشكل كبير لتصل الى 16.7% في عام 2021 مقابل انخفاض شديد في نمو الناتج المحلي الإجمالي، ليشهد الاقتصاد العراقي ضغوطاً تضخمية كبيرة جاءت بسبب جملة من العوامل كان تغيير سعر الصرف وتخفيض قيمة العملة العراقية مقابل الدولار الأمريكي العامل الأبرز فيها، ليصل معامل الاستقرار الى 6% وهو أعلى معدل سجله هذا المؤشر خلال المدة.
إجمالاً، وبالرغم من الازمات التي شهدها الاقتصادي العراقي (أزمة 2014 وأزمة 2020) استطاع البنك المركزي العراقي الحفاظ والدفاع على استقرار قيمة العملة وتحقيق الاستقرار النقدي بوصفه الهدف الأول له، والموازنة بين ضغوطات أسواق الصرف واستنزاف الاحتياطيات الأجنبية (التي تمثل رافعة مالية للاستقرار النقدي). وسيتعين على البنك المركزي العراقي الاستمرار على هذا النهج مستقبلاً في حال تعرض مرة أخرى لصدمات جديدة خارجية كانت او داخلية.
المصادر:
1- سنان الشبيبي، ملامح السياسة النقدية في العراق، صندوق النقد العربي، أبو ظبي، 2007، ص5.
2- حسين عطوان مهوس، بلال قاسم محمد، الدينار العراقي:1200 دينار/ دولار، شبكة الاقتصاديين العراقيين، بدون تاريخ، ص12.
3- البنك المركزي العراقي، تقرير السياسة النقدية، دائرة الإحصاء والأبحاث، بغداد، 2021، ص18.