الصراع السياسي وتأثيره على الامن القومي العراقي

شارك الموضوع :

من الملح للغاية، والعراق يمر بسنة انتخابية استثنائية تجري في ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد، ان يتحلى المستوى السياسي بمزيد من الضبط والادراك لفهم عواقب كثير من الاقوال والافعال والمواقف التي تصدر من بعض الساسة والقوى على الامن القومي العراقي، وان يتحولوا بسرعة من قاعدة الصراع الى قاعدة التنافس في العمل السياسي؛ لاستدامة الامن والاستقرار الذي يمر به بلدهم اليوم بما يضمن مصالح الوطن والمواطن

لا تقتصر قوة الدول على مظاهر قوتها التقليدية كالموقع، والحجم الجغرافي والسكاني، والقوة العسكرية والاقتصادية، وطبيعة السكان وما شابه، بل تشمل -أيضا- عقلية الحكم السائدة، فكلما تحلى المستوى السياسي بالشعور بالمسؤولية، والكفاءة، واعتماد الحوار والتنافس البناء، ووحدة الموقف، والالتزام الأخلاقي في علاقات افراده المتبادلة كلما ارتفع مستوى أداء مؤسسات الدولة، واقتربت قرارتها من الحكمة وبعد النظر، وزادت ثقة الناس بها...، والعكس صحيح، فما يجري في المستوى السياسي ينعكس سلبا ام إيجابا على بناء الدولة والمجتمع.

ان الوصول الى السلطة هو حق مشروع لجميع القوى السياسية، الا ان آلية الوصول الى هذا الحق تكشف عما إذا كانت القوى السياسية تسلك السلوك الصحيح والآمن لإدارة الحكم ام لا؛ فارتكازها على قاعدة التنافس السياسي التي يكون شعارها الكل يعمل من اجل الوطن يدل على ان اختلاف اجنداتها وانتماءاتها السياسية لن يشكل عقبة او خطرا على مصالح الدولة العليا، بصرف النظر عمن سيصل الى السلطة. على عكس الحال فيما إذا ارتكزت على قاعدة الصراع السياسي التي تجعل شعارها الكل يعمل من اجل السلطة، فهذه القاعدة تضر كثيرا بمصالح الدولة العليا، وتهدد أمن وسلامة مواطنيها، وتحول الوصول الى السلطة من حق مشروع للجميع الى سعي محموم تبذله كل الأطراف لفرض نفسها على السلطة بصرف النظر عن الأدوات والنتائج.

الصراع السياسي وهشاشة البناء الديمقراطي

لا يكفي الغطاء الديمقراطي للنصوص القانونية والمؤسسات الدستورية، واجراء الانتخابات الدورية للدلالة على وجود ديمقراطية حقيقية في بلد ما، فقد تصبح هذه الأشياء مجرد قناع خادع يمنح القوى السياسية المشروعية في إدارة العملية السياسية مع غياب الايمان الحقيقي بالخيار الديمقراطي، ورفض قيمه ومخرجاته. 

ان رسوخ الديمقراطية يتطلب عقلية حكم مؤهلة تحول السلطة من غاية الى أداة، فيما تكون الغاية الحقيقية هي العمل على خدمة المصالح العامة والخاصة، وإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والشعب بما يضمن تعبير الأولى تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب، وتمثيلها لطموحاته وتطلعاته في الحياة، فيما يشكل وجود القوى السياسية فرصة لخيارات متعددة يحدد التصويت الشعبي تفضيلات الناس لأي منها، وفي مثل هذا النمط من العقلية الحاكمة يعم التنافس السياسي قبل واثناء وبعد كل دورة انتخابية.

اما إذا كانت عقلية الحكم غير مؤهلة، فيصبح البناء الديمقراطي هشا، وتنقلب الصورة رأسا على عقب، ويستفحل الصراع السياسي بين القوى السياسية، ويبلغ ذروته اثناء الحملات الانتخابية، ولا تدخر هذه القوى وسيلة لإلحاق العار ببعضها البعض، لتبدو أوقات الانتخابات كأوقات الحروب في تهييج الشعب وتعبئته، وخلق المشاكل والأزمات وتعظيمها، دون مبالاة القوى المتصارعة في الوصول الى حافة الهاوية لضمان فوزها بالسلطة. 

والعراق -مع الأسف- على الرغم من اجرائه لخمسة دورات انتخابية على المستوى الاتحادي، ووقوفه اليوم على اعتاب الدورة السادسة التي ستجري في نهاية هذه السنة، الا ان ديمقراطيته الناشئة لا زالت تتصف بالهشاشة، وكأن مركبها لم يغادر مرافئه الأولى التي بدأت قبل أكثر من عشرين سنة؛ فالصراع لا التنافس هو ما يحكم علاقات قواه السياسية، دون اتعاظ بعض هذه القوى مما جره الصراع من مخاطر كبيرة وكارثية خلال العشرين سنة المنصرمة، مع عدم ادراكها لما يشكله هذا الصراع من مخاطر على الامن القومي العراقي.

مخاطر الصراع السياسي في مجتمع متنوع 

تعاني المجتمعات النامية ذات التنوع الاثني، كالمجتمع العراقي من أزمة اندماج اجتماعي عميقة بسبب فشل حكوماتها وقياداتها المتعاقبة في إدارة تنوعها الاثني بشكل ناجح، ولذا تكون مثل هذه المجتمعات حساسة للغاية تجاه التهييج والتعبئة التي يقوم بها مستواها السياسي، فهي تختزن في ذاكرتها الكثير من السرديات المركزية، والصراعات المؤلمة، والمخاوف المتبادلة، ومن السهل استعادة كل هذه الذكريات لتجديد نيران الثأر والكراهية بين الافراد والجماعات. 

وعندما لا يعلو وعي المستوى السياسي على وعي المجتمع، تتورط القوى الحاكمة بتأجيج الفتن الكامنة في الذاكرة الاجتماعية، وتوظف السلطة ومؤسساتها في أمور لا ينبغي حدوثها، فبدلا من علو السلطة على الافراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الاثنية، وتوجهاتهم السياسية تهبط للأسف الى مستواهم، وتصبح شريكا لهم في خصوماتهم...وهذا ما جرى عليه الحال في كل الدول المتنوعة التي شهدت صراعات داخلية، كجنوب افريقيا في ظل حكومة بريتوريا، ورواندا وبورندي في تسعينات القرن العشرين المنصرم، وفي ليبيا بعد الإطاحة بحكم الرئيس معمر القذافي، واليمن بعد الإطاحة بحكم علي عبد الله صالح، وشهده العراق بشكل من الاشكال بعد الإطاحة بحكم صدام حسين، وما تشهده السودان اليوم من صراع داخلي تسبب بأسوأ كارثة إنسانية معاصرة...

ان الصراع السياسي بين القوى السياسية العراقية يعيد بلدها الى الدوائر السيئة من الصراع الداخلي التي لا زال المجتمع يأن من جراحها، وهذا يشكل خطرا كبيرا على نظام الحكم برمته؛ لأنه يهدده بفشل تجربته الديمقراطية، كما يشكل خطرا على الأمن والاستقرار الهش الذي يعيشه العراق في ظل حكومته الحالية، لاسيما ان هذا الصراع لم يوفر مجالا من مجالات الحياة الا ودخل فيها، بسبب وبدون سبب، حتى وصل الى مجالات التعليم والرياضة وغيرها. 

ومخاطر هذا الصراع على الامن القومي مؤشرة بعناية من القيادات والأجهزة الأمنية العراقية، فضلا عن الخبراء والباحثين، وهي محط اهتمامهم الدائم، ولكن صوت هؤلاء يبدو خافتا وحبيس الغرف المغلقة، ولا يؤثر كثيرا على بعض القوى في المستوى السياسي، مما يدل على عدم وجود تناغم وانسجام بين ما يراه المستوى الأمني والمستوى السياسي من متطلبات لحماية مصالح العراق العليا، وغياب هذا التناغم والانسجام ينذر بمخاطر مستقبلية وخيمة العواقب.

بناء على ما تقدم، من الملح للغاية، والعراق يمر بسنة انتخابية استثنائية تجري في ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد، ان يتحلى المستوى السياسي بمزيد من الضبط والادراك لفهم عواقب كثير من الاقوال والافعال والمواقف التي تصدر من بعض الساسة والقوى على الامن القومي العراقي، وان يتحولوا بسرعة من قاعدة الصراع الى قاعدة التنافس في العمل السياسي؛ لاستدامة الامن والاستقرار الذي يمر به بلدهم اليوم بما يضمن مصالح الوطن والمواطن.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية