المشكلة المالية وتحريك الاقتصاد في العراق

شارك الموضوع :

من المستبعد الخروج من المأزق ضمن النسق الحالي للتفكير والمبادرات، بل يتعين الانفتاح على مقترحات بديلة تستند الى فهم آخر يغاير المألوف لدى اوساط القرار الاقتصادي والمالي في العراق.

الواقعية تقتضي الانطلاق من سوق النفط وتوقعات اسعاره للنظر في المستقبل المالي والاقتصادي للعراق، وكان ينبغي البحث الجاد عن مصادر للانتعاش من خارج سوق النفط منذ انتكاسة السعرعام 2008. 

    لقد بقي سعر نفط سلة اوبك لأقرب دولار صحيح بين 49 و54 للبرميل بين مطلع الشهر الاخير من عام 2016 وشهر مايس من عام 2017. وبيّن تقرير سوق النفط، شهر مايس، لمنظمة اوبك ان انتاج دولها من النفط الخام قد انخفض من 33.124 مليون برميل يوميا للفصل الاخير من عام 2016 الى 31.732 مليون برميل يوميا في نيسان عام 2017. وبهذا يكون الفائض قد اختفى بالمعدل ويعمل السوق عند التوازن، بعدما كان العرض يتجاوز الطلب بمقدار 1.8 مليون برميل يوميا بالمتوسط تقريبا عام 2015. وكان البنك الدولي في نيسان توقع 55 دولار للبرميل هذا العام و60 دولار للعام القادم.  ويتضمن   تقرير صندوق النقد الدولي حول الشرق الاوسط وشمال افريقيا، الذي صدريوم 17 من مايس هذا العام، تحذيرا من احتمال استمرار تذبذب الاسعار ضمن مدياتها الحالية.

     ولا يستبعد تعرض السعر لضغوط كابحة إذا ما توسعت الولايات المتحدة الامريكية في انتاج النفط غير التقليدي والانتاج من خارج اوبك عموما. بل ان دوام التزام دول منظمة اوبك بتقييد الانتاج يشوبه عدم تأكد، كما ان استمرار الالتزام يمنع العراق من زيادة انتاجه النفطي وصادراته حتى نهاية عام 2018. وإذا ما تخلت دول المنظمة عن الاتفاق ربما يتدهور السعر كثيرا لأن الزيادة السنوية في الطلب على النفط ليست كبيرة وعلى سبيل المثال في عام 2017 لا تزيد على 1.270 مليون برميل في اليوم وهي أدنى من طاقات الاستخراج الفائضة ناهيك عن زيادتها المحتملة.

   ولذا ليس من المعقول المراهنة على استعادة الاسعار لمستوياتها التي كانت قبل الانهيار الاخير.  وسوف يستمر عجز الموازنة العامة في العراق رغم ما يتوقعه الصندوق من مواصلة ضغط النفقات، وكذلك لا تكفي صادرات النفط الخام لتغطية المستوردات من السلع والخدمات والمدفوعات الخارجية الجارية الاخرى عامي 2017 و2018. 

  وفي خضم هذه الاوضاع لا نتوقع من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وجهات دولية اخرى، والتي لم تنقطع علاقة العراق بها منذ عام 2003، سوى المزيد من الضغوط كي يتعامل العراق مع وصفات معروفة: خفض النفقات؛ الغاء الدعم الصريح والضمني بما في ذلك اسعار الطاقة؛ تنظيف بيئة الاعمال من التدخل الحكومي؛ تدعيم حرية السوق؛ واسترضاء المستثمر الاجنبي والمحلي؛ ... وهكذا. 

    وايضا لم تنفع العراق وعود الدول الصناعية السبع، ولاحقا المانيا وبريطانيا كل على حدة، بتقديم قروض ومساعدات سخية لأعادة الاعمار ... وغيرها. كما ان محاولة العراق الأقتراض من الخارج تعيقها اسعار فائدة مرتفعة بهوامش مخاطرة مبالغ بها ارتباطا بسوق النفط واسعاره وعوامل الوضع الاقتصادي والامني، هذا اضافة الى الشكوك العميقة بجدوى الاقتراض من الخارج اصلا.  

   كما ان الوظيفة المزدوجة للمورد النفطي، اي تمويل الانفاق الحكومي والمدفوعات الخارجية، من جهة، ولأن الانفاق الحكومي هو المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي الكلي، من جهة اخرى، تجعل مهمة الادارة الاقتصادية والمالية في العراق صعبة في ظل محدودية المورد النفطي. لأن المسالة لا تنتهي عند تدبير موارد محلية، غير نفطية، من قروض وضرائب لتمويل إنفاق حكومي أكبر، بل الخوف من زيادة الطلب على العملة الاجنبية عند ارتفاع الانفاق الحكومي، وبالتالي، الطلب الكلي المحفز بالانفاق الحكومي. 

    ومما يضيف الى المشكلة عدم التمكن من إنعاش الاقتصاد غير النفطي باستقلال عن صادرات النفط والانفاق الحكومي وهو ما دلت عليه تجربة الحصار والسنتين الاخيرتين، ما دامت سياسات الاقتصاد الكلي وادارة برامج الاستثمار تحكمها البنية القائمة. وكل ذلك يؤكد الحاجة الماسة الى ادارة جديدة للاقتصاد بسياسات مختلفة، تساعد على خرق بنيوي ومن ثم انتظام عمل الاقتصاد الوطني بترابط النمو مع توسع قاعدة انتاجية تولّد كما متناميا من فرص العمل، ترفد ميزان المدفوعات بصادرات غير نفطية في الامد المتوسط والبعيد.

   لازالت الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي كافية لهذا النمط من الاداء الاقتصادي المقيّد، ويمكن للجهاز المصرفي الاستمرار في تقديم قروض، بمقادير محدودة لادامة الانفاق على النحو الذي درج عليه العراق في السنتين الماضيتين. لكن المشكلة الاقتصادية والمالية باقية، وعلى الاغلب تتعذر اعادة الاعمار وتطوير البناء التحتي، ولا نتوقع نهضة استثمارية في الصناعة التحويلية وعموم القطاع السلعي. وحتى مع بقاء مستويات الانفاق على ما هي عليه سوف يصطدم العراق عاجلا ام آجلا بقيد العملة الاجنبية. 

   لماذا لم يتمكن العراق من مباشرة التصنيع لحد الآن، لماذا لم نمتلك قدرة وطنية على توسيع وتطوير البناء التحتي في مختلف فروعه: من ابنية خدمات التعليم والصحة والادارة الحكومية، الى الطرق والسكك، وانظمة الصرف الصحي ... والكهرباء وسواها. لا بد من العناية والتدقيق في الاجابات المتداولة عن تلك التساؤلات وهل تقدم، فعلا، دليلا لتوجه بنّاء.

     ثمة بيئة تفكير وانماط سلوك تضافرت عناصرها لمنع النهوض الاقتصادي، وصناعة الراي العام في العراق تكرّس هذه البيئة، فقد اختزلت مساحة الوعي عن قصد واصرار وعوّدت المتلقي النفور من عناء البحث عن الحقيقة ومحاولة تشخيص الامكانات في الموارد والعلاقات السببية والمحركات الموضوعية للفعل البشري، وشحذ همة الانسان العراقي للكفاح بالعمل المنتج والابداع لصناعة مستقبل أفضل. 

      نعم من الضروري منح الفرصة الكافية لأطروحات اخرى والاصغاء اليها باخلاص، فهل يوجد حقا مثل هذا الاستعداد. ومن هي الجهة التي ستأخذ على عاتقها قيادة هذا التحول (حزب، تحالف وطني او تحالف قوى، تيار مدني، ...، لجان مجلس نواب، دوائر مجلس الوزراء، وزارات، ... غيرها) في ظل غياب سلطة الضوابط الكلية رغم كثرة الكلام عن الاستراتيجيات والخطط.

   العقبة امام الاصلاح ان العقل الرسمي، السياسي والاداري، يشكو ويتذمر مثل بقية الناس ولا يصدق انه يذعن لأطر نظرية في الاقتصاد والادارة هي جزء من المشكلة. ومن المستبعد الخروج من المأزق ضمن النسق الحالي للتفكير والمبادرات، بل يتعين الانفتاح على مقترحات بديلة تستند الى فهم آخر يغاير المألوف لدى اوساط القرار الاقتصادي والمالي في العراق.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية