السعودية تجاوزت مرحلة التردد واللايقين في علاقاتها مع العراق، وتريد ان تبدأ العلاقات مع العراق بقوة من جانبها، والاساس في ذلك، ان صانعي القرار في السعودية يدركون اهمية العراق في الشأن الشرق اوسطي والشأن العربي
أعلن يوم الاربعاء 18 تشرين الثاني 2020 عن افتتاح منفذ عرعر الحدودي بين المملكة العربية السعودية وجمهورية العراق امام حركة التبادل التجاري وحركة المسافرين بين البلدين وبحضور مسؤولين من كلا البلدين. افتتاح هذا المنفذ جاء بعد 30 عام على اغلاقه أثناء حرب الخليج الثانية عام 1990، وأعيد افتتاحه مرة أخرى عام 2013 بشكل جزئي وضمن نطاق محدود، لكنه أغلق مجدداً بعد سيطرة تنظيم داعش الارهابي على مدن غرب وشمال العراق قبل 6 سنوات وكان يجري افتتاحه فقط في موسم الحج.
تدخل العلاقات السعودية العراقية بعد افتتاح منفذ عرعر والذي جرى وفق ما خُطط له في مجلس التنسيق العراقي السعودي في اهم تحول في العلاقات الثنائية بين الطرفين. قبل ذلك لم تشهد العلاقات تحولات الا بشكل طفيف حصل عام 2013 بعد قيام الحكومة العراقية بالانفتاح على الجوار الاقليمي وكان يعتري خطوات الطرفين تجاه بعضهما البعض التردد وعدم اليقين. ونتج عنها فتح منفذ عرعر الحدودي بشكل محدود، وسرعان ما تبددت تلك الخطوة منتصف عام 2014 بعد سيطرة تنظيم داعش الارهابي على مساحات واسعة في غربي وشمال غرب العراق. وعلى أثرها زادت المملكة إجراءاتها الامنية الحدودية مع العراق. اذ قامت بنصب بسياج حديدي مدعم بتقنية إلكترونية حديثة يمكن من خلالها رصد كل ما يقع على الحدود وبالقرب منها، وسجلت نسبة التهريب بين البلدين انخفاضا قارب الـ 100%. علما ان البلدين يشتركان بشريط حدودي يقارب من 830 كم.
تحول آخر حدث نهاية عام 2017 بعد اعلان الهزيمة العسكرية لتنظيم داعش في العراق. اذ انتهجت الحكومة العراقية آنذاك نهجا اقليميا جديدا قائما على التوازن والانفتاح على الجوار الاقليمي العربي. وجرت زيارات متبادلة بين قيادات البلدين. اذ زار رئيس الحكومة العراقية الاسبق السيد حيدر العبادي المملكة العربية السعودية وكانت زيارة مهمة قوبلت باهتمام سعودي كبير، واستمر التنسيق بين الطرفين خلال العام 2018 و2019، ونتج عنها انطلاق مجلس التنسيق العراقي -السعودي، وشهدت العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين تطورا كبيرا اذ تم افتتاح القنصلية السعودية في بغداد في نيسان 2019.
افتتاح منفذ عرعر الحدودي بين البلدين في إطار التنسيق العراقي -السعودي يحمل دلالات وابعاد مهمة لعلاقات الطرفين، ويمكن حصرها بالآتي:
- افتتاح المنفذ جاء بعد تصميمه وتنفيذه بتمويل قارب الـ (60 مليون دولار اميركي) من الجانب السعودي بموجب مذكرة تفاهم بين مصلحة الكمارك السعودية وهيئة الكمارك العراقية في إطار مجلس التنسيق الاقتصادي العراقي السعودي. وفي اول يوم الافتتاح دخلت الى العراق 16 شاحنة محملة بالمساعدات الطبية من مستلزمات وقاية واجهزة طبية مقدمة من الجانب السعودي. وكل هذا يؤكد ان السعودية تجاوزت مرحلة التردد واللايقين في علاقاتها مع العراق، وتريد ان تبدأ العلاقات مع العراق بقوة من جانبها، والاساس في ذلك، ان صانعي القرار في السعودية يدركون اهمية العراق في الشأن الشرق اوسطي والشأن العربي. كذلك يدرك العراق اهمية السعودية ودورها في المنطقة وشؤونها وازماتها، وأنها احد القوى الفاعلة الرئيسة في معدلات التنافس الجيوسياسي في المنطقة. وهذا الامر يفرض ان يبدي العراق من جانبه قوة كبيرة في تعضيد العلاقات مع العربية السعودية وفقا للمصالح المشتركة ويوفر الضامن السياسي والامني لتطوير هذه العلاقات ليقود لاحقا الى ادوار مستقبلية تكاملية بين البلدين المهمين في المنطقة.
- على الرغم من التغير المستمر في اولويات المصالح والادوار للقوى في المنطقة (الشرق الاوسط)، وما تنتج عنه تدافعات المصالح وطبيعة معادلات التنافس والصراع في المنطقة الاكثر توترا في العالم، ليس للعراق الا اشقاءه العرب. ونرى ان البوابة للمحيط العربي هي دول الخليج العربية التي ابدت مواقف حسن نية كثيرة تجاه العراق بعد 2003. واليوم، فأن البلد الاكثر تأثيرا في الشأن الخليجي في اطار المنظومة الاقليمية (مجلس التعاون لدول الخليج العربي ) امنيا وسياسيا هي المملكة العربية السعودية التي يتزايد الادراك لديها ان استقرار العراق هو مصدر قوة لها.
- صانع القرار في العراق ينبغي ان يتوافر على إدراك مضمونه: ان العربية السعودية هي الدولة الاكبر تأثيرا في شؤون المنطقة، وهي أحد الفواعل الاقليميين في المنطقة في إطار معادلات التنافس الجيوسياسي بين الفواعل الاقليميين وايضا معادلة الصراع. كما انها طرف فاعل ومؤثر في الشؤون الخليجية ويمكن من خلالها تعضيد العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي. كذلك تعد السعودية أحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة، ولها تأثيرها في صناعة القرار الاميركي تجاه قضايا ومستجدات الشرق الاوسط. وبالتأكيد فان رغبتها ويقينها في استئناف العلاقات مع العراق بهذه القوة هو تعزيز لدورها الاقليمي في المنطقة وفي عمقها الاستراتيجي الا وهو العراق
- اقتصاديا، الاقتصاد السعودي يتمتع بمؤشرات اقتصادية كلية جيدة قياسا بدول المنطقة الاخرى، ولها صندوق سيادي يتجاوز ال (500 مليار دولار اميركي)، ولها استثمارات في دول مختلفة من العالم وفي محافظ مالية متعددة. ولديها قدرة مالية في تمويل استثماراتها في الخارج. كما انها عضو في مجموعة العشرين ونظمت مؤخرا قمة المجموعة التي ناقشت كيفية تجاوز تداعيات الجائحة الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي ما تفكر فيه من دور اقليمي هو تعزيز لدورها في إطار مقررات قمم مجموعة العشرين وتعزيز لمكانتها الدولية بين الدول الاعضاء. كما انها – كما العديد من الدول الكبرى – قدمت مساعدات طبية لدول عدة، والعراق أحد هذه الدول. ونتيجة لتداعيات الجائحة التي انعكست بدرجة كبيرة على الاقتصادات النفطية ومنها المملكة العربية السعودية، تبحث المملكة عن منافذ استثمار لتعزيز الميزان المدفوعات فيها والذي ينعكس ايجابا على ميزانها التجاري. والسعودية تدرك جيدا الاستثمارات الخاصة للعراقيين في الخارج كما في الاردن. ولكونها تتمتع ببيئة استثمارية جيدة وجاذبة، ربما تفكر في جذب راس المال العراقي للاستثمار في السعودية. كذلك تسعى السعودية الى زيادة التبادل التجاري في العراق ليصبح 10 مليار دولار خلال السنوات القادمة فيوقت بلغ حجم التبادل التجاري مع العراق خلال العامين 2018 و2019 مليار دولار.
العراق من جانبه، يعاني من ازمة اقتصادية بنيوية بكونه اقتصاد ريعي يعتمد على ايرادات النفط وتتجلى تداعياتها بين الحين والاخر وفقا لأسعار النفط. وحاليا يعاني من ازمة مالية أحد أبرز اسبابها انهيار اسعار النفط بفعل جائحة كورونا. وسبق وان اكدت كثير من الدراسات ومسؤولين تنفيذيين وتشريعيين انه لا مناص عن الاستثمار المحلي والاجنبي في تنويع الاقتصاد واخراجه من نمطه الريعي لتنشيط الاقتصاد واعطاء دور أكبر للقطاع الخاص وتوفير فرص العمل. وهنا مطلوب من الحكومة ان توفر الظروف الامنية والمالية الضامنة لجذب الاستثمارات السعودية لتكون بوابة لجذب استثمارات دول اخرى ترغب بالدخول الى السوق العراقية.
السوق العراقية بحاجة الى حجم استثمارات هائلة لاسيما في مشاريع الصناعات التحويلية والصناعات النفطية ومشاريع الزراعة. السعودية تمتلك رغبة للاستثمار في قطاع الطاقة وتحديدا في مشروع غاز ارطاوي وغاز المنصورية وغاز عكاز، موضحا أن شركة سالك السعودية لديها رغبة للاستثمار في بادية السماوة وصحراء الانبار في مجال الزراعة لاحتواء هذه المناطق على مياه جوفية. وهذه الرغبة يجب ان تقابلها اجراءات حكومية ذات تسهيلات معينة تكون جاذبة للاستثمار السعودي، وتوفير الظروف الامنية اللازمة لهذا الاستثمار ولجم الافواه التي تحاول عرقلة هذه الاجراءات وطرد الاستثمارات الاجنبية خدمة لمصالح إيران في العراق.
الامر الآخر والذي يشكل عائقا امام العلاقات الاقتصادية بين العراق والسعودية هو عمر الحكومة الحالية. فمذكرات التفاهم في الشؤون الاقتصادية يتم تنفيذها في الامدين المتوسط والبعيد، والحكومة المؤقتة الحالية برئاسة السيد مصطفى الكاظمي تنتهي مدة مسؤوليتها بعد الانتخابات المبكرة في حزيران 2021. ولتجنب عدم تنفيذ تلك المذكرات، تدعو الضرورة الى تجسيد تلك المذكرات في مشاريع قوانين وارسالها الى مجلس النواب لإقرارها لتكون ملزمة للحكومة القادمة. او اعادة التفاوض حول اتفاقية إطار استراتيجي بين البلدين لتحصل على مصادقة مجلس النواب لتكون تشريعا ملزما.
اضافةتعليق