الاستثمار في الصحة واجب إنساني واقتصادي - العراق أنموذجا

الصحة هي أحد المؤشرات المهمة التي يتم اعتمادها لقياس مدى تقدم أو تخلف التنمية البشرية في بلد ما، ومدى اهتمام الحكومة بها. وتختلف أولويات التنمية البشرية عن أولويات التنمية الاقتصادية، ففي الوقت الذي كانت الأخيرة تعطي اهتماماً كبيراً للجوانب المادية على حساب الجوانب البشرية، أصبحت البشرية تعاني ارتفاع مستويات الألم والمعاناة وانخفاض مستويات الرفاه الاقتصادي.

مؤشر متوسط نصيب الفرد ليس كافياً

حيث كان متوسط نصيب الفرد يمثل مؤشراً رئيسياً للتنمية الاقتصادية، فإذا ما كان هذا المؤشر مرتفعاً فهو يعني ارتفاع الرفاه الاقتصادي وانخفاض مستويات الألم والمعاناة ولكن في حقيقة الأمر هذا المؤشر لم يكُن كافياً لقياس مدى تحقق الرفاه الاقتصادي من عدمه.

وذلك لإغفاله مسألتين الأولى تتعلق بالعدالة والثانية تتعلق بنوع الحاجات، فمتوسط نصيب الفرد لم يعطي انطباعا واضحاً عن مدى تحقق العدالة، وللتوضيح بشكل مبسط، إذا كان دخل فرد ما 250 دينار وآخر 750 ديناراً، وإن مجموعهما هو 1000دينار، سيكون متوسط نصيب الفرد هو 500 دينار لكل شخص وهذا ما يُجافي الحقيقة والواقع من حيث العدالة لان دخل الشخص الأول هو 250 دينار وليس 500 دينار. 

أما بالنسبة لنوع الحاجات، فمتوسط نصيب الفرد لم يأخذ الحاجات غير المادية وهي حاجات أساسية كالصحة والتعليم والغذاء وغيرها بعين الاعتبار بشكل واضح، وكان جُل تركيزه مُنصباً على الحاجات المادية المتمثلة بالسلع والخدمات، وهذا ما جعل الإنسان ذو الحاجات المادية وغير المادية يعاني من ارتفاع مستويات الألم والمعاناة بفعل طغيان الجوانب المادية على الجوانب غير المادية.

هذا ما دفع الأمم المتحدة لإيلاء الإنسان مزيداً من الاهتمام عبر إصدارها تقارير خاصة بالتنمية البشرية جعلت من الإنسان هو هدف التنمية ووسيلتها بعد إن كان وسيلتها فقط سابقاً وإن البشر هم الثروة الحقيقة للأمم، حيث نلاحظ إن كل تقاريرها تحمل عنوان رئيسي هو التنمية البشرية ابتداءً من تقرير 1990 تحت عنوان "مفهوم التنمية البشرية وقياسها" وحتى تقرير عام 2018 الذي حمل عنوان " أدلة التنمية البشرية ومؤشراتها" هذا ما يعطي انطباعا واضحاً عن مدى الاهتمام بالتنمية البشرية، وكانت من نتائجه انخفاض حجم الفقر في العالم من 1.9 مليار وبنسبة 36% عام 1990 إلى 734 مليون شخص وبنسبة 10% يعيشون على أقل 1.90 دولار عام 2015 حسب البنك الدولي.

أين العراق من التنمية البشرية؟

بشكل عام اتضح من خلال مقال سابق " تنمية بشرية أم تنمية عسكرية؟ في العراق " إن العراق لم يولي التنمية البشرية أهمية قصوى في سياساته حيث لم يضعها في مقدمة أولوياته بل جاءت في ذيل سلم الأولويات فكانت النتيجة احتلال العراق المرتبة 120 من أصل 180 دولة في مؤشر التنمية البشرية  وهذا ما يعني إهمال العراق للتنمية البشرية وسيظل يعاني الألم والمعاناة ما لم يضعها في سلم الأولويات.

يُعد الاستثمار في الصحة ضرورة انسانية واقتصادية كونها تُعد أحد مؤشرات التنمية البشرية، إذ إن المجتمع الذي يتمتع بمؤشرات الصحة يكون أكثر قدرة على التعليم والقابلية على الإنتاج والتطور، وعليه إن إيلاء الاهتمام للصحة سيسهم بشكل كبير في إنقاذ العراق صحياً واقتصادياً خصوصاً إذا ما علمنا إنه يعاني من نظام صحي سيء.

الاستثمار في الصحة واجب إنساني

يعاني العراقيون، قبل جائحة كورونا، من نظام صحي وطبي سيء لا يستطيع تلبية احتياجاتهم الصحية والطبية بشكل جيد، وهذا ما انعكس سلباً على الوضع الإنساني من حيث الجانب الصحي، حيث نجد الكثير من العراقيين يعانون آلام الأمراض وسوء الخدمات الصحية والطبية والوقائية ونقص العلاج للأمراض المستعصية، مما دفع الكثير منهم للسفر نحو الخارج من أجل العلاج.

 إضافة إلى ضعف الاهتمام والعناية بالفئات الهشة -شكلت 2.5% من سكان البلاد غير الآمنين غذائياً عام 2016  -التي أخذت أعدادها تتزايد بشكل طردي مع الأزمات التي حصلت ولا تزال في العراق ابتداء من الحروب ومروراً بالصراع الطائفي والأزمات المالية وانتهاء بداعش واستهداف المتظاهرين وجائحة كورونا وانخفاض سعار النفط.

إن سوء الخدمات الصحية والطبية والوقائية وتزايد حجم الفئات الهشة بسبب الأزمات المتوالية والفشل الحكومي المزمن، دفعا لتفاقم الوضع الإنساني المتدهور في العراق. علماً إن الدستور العراقي لعام 2005 يؤكد الحق في الرعاية الصحية لكل فرد عراقي في المادة 31 أولاً " لكل عراقي الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بالصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية" فأين الثُرى من الثرية؟!

إن الاهتمام بالجانب الصحي وتقديم أفضل الخدمات الوقائية والعلاجية سيكون دستورياً وإنسانياً بحد ذاته، كونه سيقلل الآم الأمراض التي تعانيه الإنسانية في العراق، وعليه إن الاستثمار في الصحة يكون واجب إنساني.

الاستثمار في الصحة واجب الاقتصادي

في الوقت الذي يعانيه العراق من أحادية الاقتصاد بحكم اعتماده النفط بشكل كبير وسوء القطاع الصحي كما ذكرنا آنفاً، من الممكن إيلاء هذا القطاع اهتماماً كبيراً ليسهم في حل أحادية الاقتصاد العراقي.

إذ إن بناء قطاع صحي متطور سيكون له العديد من المزايا الاقتصادية التي تسهم في مغادرة أحادية الاقتصاد، إذ إن بناء قطاع صحي متطور سيسهم في الاحتفاظ بالعملة الأجنبية التي كان يتم تسريبها نحو الخارج لأغراض السياحة العلاجية قبل العمل على تطوير القطاع الصحي، وهذا ما يدعم الاحتياطي الأجنبي والعملة المحلية وكل ما تحتاجه عملية التنمية في الداخل.

كما يسهم في بناء مجتمع محلي ذو بنية جيدة قادرة على الإنتاج والتطور وهذا سينعكس على أغلب القطاعات الاقتصادية كونها ستُرفد بقوى عاملة ذات صحة جيدة تستطيع العمل والإنتاج، وهذا ما يعني ارتفاع الإنتاجية مقابل انخفاض التكاليف مما يسهم في تنشيط القطاعات الاقتصادية.

ميزة ثالثة مهمة أيضاً، إنه سيسهم في جلب العملات الصعبة وتوفير العديد من فرص العمل وتفعيل القطاعات الأخرى بحكم الترابطات الأمامية والخلفية فيما بين القطاعات، إذ إن بناء قطاع صحي متطور فاعل سيكون محط أنظار مجتمعات الدول الأخرى، وعند مجيئها للعراق من اجل التطبب والعلاج سيحتاج الوافدون للنقل والسكن والطعام وغيرها، وهذا ما يعني خلق المزيد من فرص العمل لان الطلب على النقل والسكن والطعام سيؤدي إلى الطلب على مستلزمات النقل والسكن والطعام وبهذا سينشط قطاع النقل والخدمات الفندقية والزراعة وغيرها، وكل هذه تؤدي لجلب العملات الصعبة التي يحتاجها العراق بعيداً عن النفط وبهذا نكون قد ابتعدنا بنسبة ما عن أحادية الاقتصاد.

  إن الاستثمار في الصحة سيسهم في تحسن مرتبة العراق في مؤشر التنمية البشرية الذي تصدّره الأمم المتحدة، وهذا سيعطي صورة طيّبة عن العراق إمام المجتمع الدولي وهذا ما ينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد العراقي كونه سيكون بيئة جاذبة وليس طاردة للاستثمار لان أحد العوامل المهمة التي يبحث عنها المستثمر هو وجود تنمية بشرية عالية تسهم في نجاح مشروعه الاستثماري، وإن جذب الاستثمار سيسهم في تطوير القطاعات الاقتصادية الأخرى.

خلاصة القول، ونظراً لدور الاستثمار في الصحة في إنهاء المعاناة الإنسانية بفعل تدهور الجانب الصحي، وإنهاء المعاناة الاقتصادية بفعل أحادية الاقتصاد العراقي، إن الاستثمار في الصحة أصبح واجب إنساني واقتصادي لإنهاء تلك المعاناة بشقيها.

مصادر تم الاعتماد عليها

  - البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، تقرير التنمية البشرية، 2018، ص24.

  - وزارة التخطيط، خطة التنمية الوطنية 2018-2022، ص133.

التعليقات