سيناريو الانسحاب من العراق في ظل الترتيبات الاستراتيجية الأمريكية ومستقبل العملية السياسية

تتفاعل في صياغة ملامح الإستراتيجية الأمريكية جملة من الدوافع والمتغيرات والحسابات العالمية والإقليمية والداخلية التي تمتد عبر مساحة زمنية تشمل الحاضر والمستقبل ولا تغفل في الوقت ذاته عن الإفادة من دروس الماضي وتجاربه. وليس من قبيل المبالغة تشبيه هذه الإستراتيجية بجبل الجليد الذي لا يظهر منه إلا الجزء الأصغر، في حين يكمن الجزء الأكبر خلف ستار من الغموض والتمويه الاستراتيجي الذي يراد منه تأمين خزين القدرة الكافي لتحقيق الأهداف الموجودة ليس في الحاضر القريب فحسب وإنما في المستقبل البعيد أيضاً. وفي سياق البناء الاستراتيجي الأمريكي ذلك يقع العراق عند نقطة التقاطع بين ثلاث دوائر إستراتيجية حيوية تتداخل معاً لنسج مدى الرؤية المستقبلية للعراق والولايات المتحدة على حد سواء. تتسع الدائرة الأولى لتشمل محيط العالم، وفيها ترسخ أهم الأهداف والمصالح الإستراتيجية الأمريكية والتي تتلخص في تكريس الهيمنة العالمية وضمان التفرد بالنظام الدولي، ويتفرع من هذا المنحنى الاستراتيجي حملة من المصالح الحيوية التي تصب في قناة السعي للحؤول دون نهوض قوة منافسة أو بروز تهديد معادي للزعامة الأمريكية العالمية. ويمكن تحليل المساعي الإستراتيجية الأمريكية في التواجد العسكري والسياسي المباشر بالقرب من بؤر التوتر والمناطق ذات الأهمية الجيواستراتيجية بضمنها العراق، بكونها محاولة أمريكية لاتخاذ منصات ومعابر وخزانات إستراتيجية ليس للتقرب من خلالها لأبرز الخصوم والمنافسين المحتملين والقوى الإقليمية المعادية للنفوذ الأمريكي فحسب، وإنما للإفادة كذلك مما تزخر فيه هذه المناطق من موارد وتوظيفها للضغط على تلك القوى وإخضاعها للإرادة الأمريكية. والواقع إن مراجعة شاملة للتوجيهات الإستراتيجية الأمريكية، تدفع إلى الاستنتاج بأن الأخيرة قد استبدلت القلب الجيواستراتيجي للماكندرية القديمة المتواجد في أوراسيا بقلبِ جيو ثقافي جديد يقع على تخوم القارة الآسيوية ووسطها وبمنظورها فإن السيطرة على هذا القلب يمكنها من التقرب والإجهاز على أهم منافسيها الحضاريين في الهند والصين واليابان والشرق الأوسط أو حتى العالم الإسلامي ككل خاصة وان هذه القوى ذاتها تتوافر على عناصر أخرى من القدرات التي تؤهلها لمنازعة الولايات المتحدة هيمنتها العالمية في المستقبل. وما تقدم يضع الحواجز المنطقية أمام احتمالية انسحاب أمريكي قريب من أفغانستان والعراق لأن مثل هذه المناطق تعد من وجهة النظر الأمريكية كمشات إستراتيجية على الخصوم المستقبليين للولايات المتحدة. وتضيق الدائرة الثانية المتفرعة من الدائرة الأولى لتركيز الرؤيا الإستراتيجية على مساحة تتحدد بإقليم الشرق الأوسط الذي يكتنف توليفه جملة خطرة من العناصر الحيوية المتباينة إلى حد كبير، فمن جانب تدخل المنطقة بأهم خزين استراتيجي نفطي عالمي مستقبلي وتضم كذلك أهم حليف استراتيجي للولايات المتحدة في العالم ذلك هو إسرائيل، ومن جانب مقابل تضم هذه المنطقة أهم بؤر التوتر في العالم وأهم القوى ذات الثقل الحضاري والعالمي المناهض للتوجهات الأمريكية والغربية وفقاً لرؤية هنتنغتون. ومثل هذه المنطقة ذات التربة السياسية الرخوة والعمق الحضاري والثقل الاقتصادي والفسيفسائية المجتمعية تتطلب من المنظور الأمريكي عملية إعادة تأهيل واستصلاح إستراتيجية تمر عبر حلقة متماهية من الفوضى والأزمات المفتعلة التي تستنزف بها قوة المقاومة وتبتز من خلالها القوى الحليفة سبيلاً لتحقيق غاية مفادها تشكيل شرق أوسط جديد منزوع الإرادة والقدرات، ومستنزف الموارد... مشتت الهوية وخاضع لاملاءات الإدارة الأمريكية وحليفها الصهيوني. وتلتقي تلك المساعي والأهداف لتصب في بوتقة الدائرة المركزية الثالثة في العراق حيث تقع –من غير مبالغة- بؤرة الاهتمامات الإستراتيجية الأمريكية، وعندها تنبثق الذرائع وتتهيأ الضرورات لتحقيق حضور أمريكي عسكري مكثف على هذه الرقعة الحيوية تتوارى في خضمه كل احتمالية لانسحاب شامل وشيك. ولهذه الأسباب كلها ألقت الولايات المتحدة بجل ثقلها الاستراتيجي في العراق وتخوض اليوم أهم معاركها لتجني بالغد ثمار ذلك هيمنةً على أهم مصادر الطاقة في العالم. وفي ضوء هذا يضحى منطقياً التماس السبيل إلى مستقبل العملية السياسية في العراق عبر تقصي حجم الأثر الذي سيخلفه أي انسحاب أمريكي من هذا البلد، لما تمارسه الولايات المتحدة من دور حاكم في تحديد المسار الحالي لإرهاصات الواقع وتطوراته. وعلى الرغم مما يكتنف الرؤية المستقبلية من صعوبات تغوص على أعتابها التوقعات في أرضية رخوة من الشك وانعدام اليقين بسبب هلامية حدود التغيير في ملامح الواقع وغياب الأنساق الضابطة لتطوراته، فأن ذلك لا يعفي من التقرب إلى هذا المستقبل عبر دالة المشاهد الاحتمالية التي تضع الإطار العام في هيئة افتراض اليوم على قاعدة التقاط معطيات الواقع وتحليلها وفك رموزه وفض تقاطعاته. وفي هذا المضمار تتراءى أمامنا ثلاثة مشاهد مستقبلية للعملية السياسية في العراق بدالة الوجود العسكري الأمريكي على أرضه. * المشهد الأول:- ينبني هذا المشهد على افتراض استمرارية الوضع الراهن في الساحة السياسية العراقية حتى المستقبل المنظور نتيجة لاستمرار تأثير ذات المتغيرات التي تصوغ صورة الواقع الراهن، وما يدعم هذا الافتراض يتأتى من تشبث أهم القوى السياسية على الساحة بقواعد اللعبة السياسية القائمة على التخندقات الطائفية والقومية والتحالفات المرحلية المتلونة بألوان المصالح الذاتية والفئوية، إن انغراس العجلة السياسية في أرضية تلك المصالح الضيقة، قد ولد حرصاً لدى الطبقة الحاكمة على استبقاء المضلة الأمنية الأمريكية فترة ممكنة، وبالمقابل أفرز نفوراً شعبياً من مخرجات العملية السياسية تنامى معه البون بين القمة والقاعدة وانحسرت مساحة المشروعة والمصداقية التي تشثت بها النخبة السياسية. وهكذا أضحى الكلام عن انسحاب أمريكي وشيك قفزاً فوق موانع الواقع لأن ما يحكم الوجود العسكري الأمريكي في العراق يتعدى كثيراً خارطته (كما أسلفنا)، وبالتالي نقول كما يقول الساسة الأمريكان بأن المهمة لم تنجز بعد، وهذه المهمة تتعدى ما يروج له الإعلام الأمريكي في بناء التجربة الديمقراطية، المستقرة لهذا البلد وتحقيق النصر الناجز على الإرهاب، وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد حتى الآن، إن هذه المهمة التي تستلهم ملامحها الأولية والنهائية من واقع البناء الدستوري الهش، وتداعيات لعبة توازن القوى السياسية والاجتماعية، التي أرست قواعدها الإدارة الأمريكية منذ وقت مبكر، وما أفرزه كل ذلك من تداعيات انعكست سلباً على بنية الهوية الوطنية،... لم تنجز بعد... والمستقبل وفقاً لهذه الرؤية لا يشجع كثيراً على التفاؤل، وما يسعف هذا الاستنتاج، إن الولايات المتحدة قد عكست كل خبراتها العسكرية وتجارب حلفائها السابقة وبخاصةً في جنوب شرق آسيا والمشرق الأوسط لتحكم قبضتها وسيطرتها على مفاتيح الحياة السياسية في العراق اليوم بأتباع أسلوبين تقليديين، أولهما: توظيف التناقضات الاجتماعية والسياسية منها في إنجاح الأسلوب الثاني الذي يقوم على شد أو استقطاب الأطراف بصورة مباشرة إلى سلطتها المركزية. وهكذا من غير التوقع أن يشهد المستقبل المنظور تبدلاً كبيراً في طبيعة واتجاه التحالفات السياسية المتواجدة على الساحة اليوم، مع احتمال حصول نمط من توازن القوى الإسلامية من جانب والقوى العلمانية تحت لواء القائمة العراقية من جانب آخر، وفي هذه المنافسة ستعمد القوى العلمانية إلى استثمار إخفاقات القوى الإسلامية لتحقيق مكاسب شعبية وانتخابية تعزز بها مواقعها في العملية السياسية. وليس مستبعداً تمكن هذه القوى من تشكيل الحكومة وقيادة العملية السياسية مجدداً في المستقبل. وفي دوامة عملية شد الحبل السياسي بين المتنافسين، وتواضع مستوى الانجاز، والجمود الذي يلف العملية السياسية برمتها، سيشهد المستقبل انخفاضاً دراماتيكياً في نسب المشاركة الشعبية في المحافل الانتخابية مع انكفاء ملحوظ في عملية البناء الديمقراطي تجد دالته في سعي المنافسين إلى تعويض خسائرهم الشعبية بإحكام القبضة على مفاصل العملية الانتخابية بغية التأثير في مخارجها. ومع استمرار هذا الانحباس الديمقراطي واستمرار لعبة التوازنات السياسية والتوافقات المصلحية متفاعلاً مع ما يطرحه الدستور النافذ من إمكانيات الانفتاح العرقي والديني عبر نافذة الفدرالية، ستنشط في المدى القريب محاولات تكريس الهويات الفرعية مع احتمالية تمكن الأكراد من استحصال مكاسب مهمة على طريق ضم كركوك إلى إقليم كردستان. وعلى الصعيد الميداني لن تشهد الساحة الأمنية تراجعاً مهماً في مستوى الإرهاب وعنف الميلشيات طالما أستمر الدعم الخارجي لها وانقطعت خطوط الثقة بقدرة الحكومة على تحقيق قدر مرض من الانجازات وتحسين الخدمات مع تواضع أداء الأجهزة الأمنية وانحباسها في اطر المواجهة المسلحة المباشرة المفتقدة إلى العمق ألاستخباراتي الكافي لاختراق شبكة الإرهاب وتفكيكها. * المشهد الثاني:- يقوم هذا المشهد على احتمال التطور الايجابي في إيقاع وأداء العملية السياسية يستتبعه انتفاء الحاجة الموضعية والقانونية لتواجد القوات الأجنبية في العراق. وما يعزز هذا الاحتمال، الجذور التي أقامتها القوى السياسية الرئيسية فوق التخندقات الطائفية والقومية وقريباً من المصالح الوطنية الشاملة، ودالة ذلك التحالف الرباعي الذي يسير باتجاه تحوله إلى تحالف خماسي عند استقطاب الحزب الإسلامي إلية، هذا إلى جانب بروز أشكال أخرى جديدة من التحالفات التي قامت على أسس وطنية علمانية، ناهيك عن احتمال تحول الصحوات إلى قوة سياسية لها وزنها المؤثر على الساحة السياسية. والواقع أن المخاضات السياسية تؤشر نوعاً من الحراك والنضوج في الحياة السياسية، وفي تطوراتها مستقبلاً فأن ذلك سيصب بالضرورة في مصلحة الشعب العراقي وارتقاء الممارسة الديمقراطية وترشيد مسارها بفضل ما ستتمخض عنه ديناميكيات المنافسة السياسية الايجابية وتداول السلطة بين الفاعلين على المسرح السياسي من مخرجات ايجابية، وقبل هذا وذاك فإن مساعي الحكومة في إعادة فتح الحوار مع القوى السياسية الأخرى وترميم جهود الثقة معها مضافةً إلى مساعيها في استعادة هيبة الدولة وسطوتها عبر فرض القانون على الجميع وحصر السلاح بيد الأجهزة الأمنية والشروع في مسيرة البناء والأعمار وتقديم الخدمات إلى المواطنين، كل ذلك يفتح أبواب الأمل بغدِ مشرق تنصاع فيه العملية السياسية لمتطلبات الممارسة الديمقراطية الرشيدة، ويعلو فيه صوت دولة القانون فوق صوت الميليشيات والأحزاب، وتسمو راية الهوية الوطنية بألوانها المختلفة فوق كل الرايات الفرعية. وعندها لن يبقى في عراق الغد على هذه الشاكلة أي مكان للقوات الأجنبية والإرهاب حيث ستتسع دائرة الاستقرار والتطور وتضيق معها دائرة الإرهاب والتداخلات الأجنبية تدريجياً، فتستعيد الجماهير الشعبية ثقتها بالسلطة وتستعيد معها رغبتها بالمشاركة الفعالة الايجابية في فعاليات التجربة الديمقراطية ومتطلباتها. * المشهد الثالث:- تتبلور ملامح هذا المشهد في ضوء افتراض الانسحاب الأمريكي النهائي والاضطراري من العراق وما يتمخض عنه من اضطراب التغيير السلبي في المستقبل. والواقع إن رجحان هذا السيناريو يأتي من معطيات تقف في مقدمتها الضغوط التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي من جراء تكاليف الحملة العسكرية في العراق وأفغانستان، وتتفاعل تلك الضغوط مع تبلور رأي عام أمريكي وعالمي يدفع باتجاه إنهاء الحرب في العراق وسحب القوات لتطرح حاجةً تردد صداها البرامج الانتخابية للمرشحين لسباق الرئاسة في الولايات المتحدة، وفي إطار عملية المراجعة الشاملة التي ستجربها الإدارة الأمريكية القادمة لاكلاف الحرب في العراق في مقابل تواضع مردوداتها الميدانية أو حتى تحقق الحد الأدنى لأهدافها، ستنفتح أبواب الاحتمال على طريق الانسحاب النهائي والاضطراري للقوات الأمريكية من العراق، وتتنامى مثل هذه الاحتمالية إذا حصل تطور مهم في مستوى المقاومة السلمية والمسلحة (الرسمية والشعبية) للوجود العسكري الأمريكي من داخل العراق. عندها سيشهد المستقبل استعادة لأهم مفاصل التجربة الفيتنامية، والتي ستكتمل حلقاتها من واقع عدم اكتمال مسارات البناء الديمقراطي والسياسي في العراق، وارتخاء القواعد الشعبية ومرتكزات المشروعية للعملية السياسية الجارية بسبب تواضع مستوى الانجاز، واستفحال قوة الميليشيات والنزعات الانفصالية وغياب الأمن، وفي ضوء ما تقدم يضحى مباحا" الكلام عن صورة قاتمة من التغيير الذي سينطلق من تفاقم الاحتقان وتصاعد مستوى الصراع بين القوى السياسية إلى درجة العنف المسلح للحصول على التفرد أو المواقع المتقدمة في القطار السياسي. ويتداعى هذا الاحتمال لينذر بإمكانية تفكك وانهيار مؤسسات الدولة وتبخر قواها في خضم صراع الميليشيات. يتزامن ذلك مع ارتفاع في وتائر العمليات الإرهابية التي تضيع معها كل مرتكزات الأمن والأمان ولاسيما إذا أعاد الإرهاب ترتيب صفوفه ووج الدعم والإسناد من الخارج والظروف المؤاتيه من الداخل. وفي ظل هذا المسار التراجيدي للصراع، لابد من وصول الأمور إلى مفترق طرق يتمثل أما بإنهاك الأطراف المتصارعة ووصولها إلى الرضا بصيغة توافقية تعيد فيها الأمور إلى نصابها الطبيعي ونقطة الشروع الأولى، أو تمكن احد أطراف الصراع من تحقيق النصر والاستيلاء على السلطة والانفراد بها، ليعيد العراق إلى طريق الاستبداد القديم الذي تركه حديثاً. إن منطق التأريخ يقطع دابر الشك بحتمية خروج الأجنبي من العراق مهما استطال بقائه، وعندها سيبقى العراق للعراقيين، ولمثل ذلك اليوم فليعمل السياسيون بعيداً عن كل حسابات ضيقه من اجل غد واعد وعراق يرفل بالعز والسلام والأمن والرفاه...
التعليقات