تعد الفلسفة البراغماتية من الفلسفات المادية الحديثة التي تؤكد على المردودات والنتائج الإيجابية من الأفكار. إذ ترى بإنَّ العقل يحدد هدفه حين يقود صاحبه الى العمل الناجح، فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة -أي الفكرة التي تحققها التجربة-والا يقاس صدق القضية الا بنتائجها العملية (وأن معيار الحقيقة هو العمل المنتج وليس الحكم العقلي). وجاءت هذه الفلسفة كرد فعل على النقاش الفلسفي الميتافيزيقي التي كانت تشهده الساحة الفلسفية في الولايات المتحدة الأمريكية وكرد فعل أيضاً على الصراع الفلسفي بين (الفلسفة العقلية والفلسفة الحسية) بتأكيدها على نتائج الأفكار العملية وليست النظرية.
واذا ما صنفنا الفلسفة البراغماتية كمدرسة سياسية شأنها شأن المدراس السياسية الأخرى التي حكمت العلاقات السياسية الدولية كالمدرسة المثالية الواقعية والليبرالية ..الخ. نرى بأنها من المدارس التي تؤمن باختلاف الآراء وعدم ثباتها في السياسة والدين والاقتصاد والعلوم الطبيعية، وأن الصدق والكذب والحق والباطل والصواب والخطأ، كلها مفاهيم نسبية وليست مطلقة، كذلك هناك ما يميز هذه المدرسة أو الفلسفة بأنها فلسفة مستقبلية لا تنظر الى التاريخ والماضي بل إلى الحاضر والمستقبل. وهذا ما يتأقلم مع البيئة السياسية والأيديولوجية للولايات المتحدة الأمريكية التي تعد بيئة خصبة بالنسبة لها؛ لكونها بيئة شتات من دول واديان ولغات مختلفة لم تنظر إلى تاريخهم بل إلى حاضرهم وما ينتجوه من أفكار لرفد وتطور البيئة الأمريكية وتميزها مقارنة بالحضارات والبيئات الأخرى. وترى الفلسفة البراغماتية بأن (الدين والعلم) وجدوا لغاية محددة وهي اسعاد الأنسان، ولهذا فأنها لا تفرق بين الأديان السماوية، وتستنتج الخالق للأغراض العملية. ولهذا أيضاً نرى بأن الفلسفات الإسلامية تتهجم كثيراً على هذه الفلسفة لكونها فلسفة مادية وتصفها بالفلسفة الملحدة، متجاهله دورها في تطور الحياة الانسانية، فالبيئة الأمريكية تطورت بفعل هذه الفلسفة التي انعكست فيما بعد في خطاب الرؤساء الأمريكان وإدارتهم السياسية للعلاقات الخارجية والداخلية، وقد وظفت بشكل ايجابي في كل جوانب الحياة، لاسيما الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية وبدينامية سلسه. وقد اتسقت هذه الفلسفة مع الطروحات الدينية للإباء المؤسسين، لاسيما مع التوظيف (السياسي-الديني "العملي") ومع الطروحات السياسية الاقتصادية (الفردية والحرية والليبرالية) حتى اصبحت هذه الفلسفة أحد تجليات الفكر السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وتجلت بالفعل في الخطاب الأمريكي الرسمي وغير الرسمي. فالتوظيف البراغماتي للقيم الأمريكية وتسويقها للعالم الخارجي جعل منها قيم عالمية ومحط أنظار المتلقين منذ البدايات التأسيسية الأولى للولايات المتحدة، فما يقوله (هيرمان مليفل) "نحن رواد العالم وطلائعه... اختارنا الرب، والانسانية تتطلع الى سلالتنا وتنتظر منا الكثير، ونحن نشعر في مكنون انفسنا بالقدرة على فعل الكثير، لقد بات على أكثر الامم أن تحتل المؤخرة.. نحن الطليعة ننطلق الى البرية لنقدم ما لم يستطيع أن يقدمه الأوائل". وما قاله (جورج واشنطن) في خطابه الرئاسي بأنه "موكل بمهمة عهدها الله الى الشعب الامريكي وذلك في العام 1789". وما عبرت عنه (مادلين اولبرات) بقولها ‘‘الأمة التي لا غنى عنها سواء كانت مختارة من الرب أم "القدرة" أم "التاريخ" أم أنها موسومة بالعظمة والقدرة على القيادة من خلال امتلاك أعظم شكل للديموقراطية وانجحها وأقدمها واكثرها تطوراً‘‘، وكذلك قول ‘‘بوش الأبن‘‘بأن "الارهابيين يمقتوننا لأننا نعبد الرب بالطريقة التي نراها مناسبة"، فضلاً عن خطاب الرئيس الجديد "دونالد ترامب" الذي ركز في خطاباته ودعايته الانتخابية على "عظمة أميركا وقيمها السياسية والاجتماعية؛ من خلال تأكيده على جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". كل ذلك يعكس الكيفية التي وظفت فيها الطبقة السياسية الأمريكية القيم السياسية والدينية الأمريكية وطريقة تسويقها من خلال التأكيد على الثوابت الوطنية الداخلية التي لا تقبل التسويف أو التجاهل سواء بالنسبة لشكل النظام السياسي أو القيم السياسية والاجتماعية بشكل عام. حتى أصبح مفهوم البراغماتية من المفاهيم الشائعة بشكل كبير في مجال السياسة على المستوى العالمي، واصبحت اغلب الأنظمة السياسية أنظمة براغماتية تبحث عن مصالحها ومنافعها في الميدان العالمي والإقليمي وعادة ما تعكس تلك الأنظمة ثوابتها الوطنية في سلوكياتها الخارجية.
وإذا ما اسقطنا مفاهيم هذه الفلسفة على سلوكيات الدولة العراقية وحكوماتها المتعاقبة بعد العام 2003، سنجد بأن هناك غيابا تاما لهذه النظرية في فلسفة الدولة العراقية وخطاب القوى السياسية العراقية، لاسيما على الصعيد الخارجي. فالدولة العراقية بـ "حكوماتها وقواها السياسية" افتقدت للثوابت الوطنية الشاملة التي تمكنها من الخروج للعالم الخارجي بلغةً وخطاب سياسي براغماتي، يظهر عمق وتاريخ العراق الحضاري وموقعة الجغرافي وهويته الوطنية، ودوره السياسي في المنطقة بعيداً عن الاصطفافات المذهبية والقومية والصراعات الإقليمية. وعليه قد تفهم البراغماتية المعاصرة بانها قراءة وإدراك للمصالح الشخصية أو الوطنية بغض النظر عن الثوابت الوطنية والقيم الاخلاقية، لكن الواقع السياسي والتغيرات العالمية قد تكون اوسع من ذلك وتأخذ بنظر الاعتبار وبالدرجة الأولى المعايير والثوابت الوطنية بشكل شامل بعيداً عن المنافسات والصراعات الحزبية والمذهبية الداخلية، ولا تنعكس تلك الصراعات خارج الحدود القومية للدولة وتذوّب داخلياً؛ لأن الخروج إلى العالم الخارجي يتطلب موقفا وخطابا سياسيا رسميا موحدا عاكسا للثوابت الوطنية بطريقة براغماتية يتم التعامل بموجبها مع ذلك العالم. ولهذا فالدولة العراقية أحوج ما تكون اليوم إلى هذا الخطاب وهذه الفلسفة على الصعيدين الداخلي والخارجي.