وصل العراق الى عام 2017 وهو اكثر تماسكا مما كان عليه في السنوات الثلاث الأخيرة، فحكومته تبدو أكثر عقلانية وانفتاحا في علاقاتها الداخلية والدولية، وقواه الأمنية والعسكرية تحقق الانتصار في الميدان وتمتلك المبادرة لهزيمة الإرهاب وتثبيت سيطرة الدولة على الأرض، والمخاوف الاقتصادية خفت حدتها قليلا مع برنامج القروض الدولية والتحسن الحاصل في أسعار النفط بعد اتفاق المنتجين على خفض سقف الإنتاج، والمشاعر الشعبية تزداد وطنية وبعدا عن الانتماءات الفرعية، وحركة النزوح الداخلي بدأت تأخذ اتجاها عكسيا بعودة النازحين الى مناطق سكناهم الآمنة...ولكن هذه المؤشرات الإيجابية يجب ان لا تخدع المراقبين للوضع في العراق، فضلا عن صناع القرار والشعب في هذا البلد، فالعراق ما زال في دائرة الخطر ولم يغادرها، والخوف من الأسوء ما زال –أيضا- حاضرا بقوة ويسمح بتخيل كل الاحتمالات، لماذا؟
خمسة مخاوف لا يمكن انكارها
يعاني الوضع في العراق من هشاشة واضحة تجعل البلد يتحرك في حقل أشواك صعب للغاية، فهناك مخاوف كثيرة يخشى من تفاقمها في السنة الميلادية الجديدة يمكن تحديد خمسة منها على أنها الأخطر والأكثر ضررا وهي:
- تقسيم العراق: هو من أكثر المخاطر التي تهدد وحدة وسيادة البلد، وهو خطر يجري الحديث عنه علنا او خلف الأبواب المغلقة، وفي الوقت الذي تراجعت محفزاته الإقليمية والدولية؛ بسبب حركة الاحداث والمواقف في الشرق الأوسط والعالم، الا أن محفزاته الداخلية لا زالت موجودة، ويقف على رأسها الصراع والنزاع المستمر بين القوى السياسية العراقية كالصراع بين المركز والاقليم (قومي) والصراع بين الشيعة والسنة (طائفي) والصراع داخل المكونات كردي – كردي، وشيعي –شيعي، وسني –سني... ( من اجل السلطة والنفوذ)، فالقوى السياسية العراقية لم تحسم أمرها بالاتفاق على رؤية محددة لإدارة بلدها، ومعظم مواقفها تحكمها دوافع الحقد والكراهية المتبادلة، او حسابات السيطرة والنفوذ. نعم هناك مساعي من بعض الأطراف الى تهدئة الساحة السياسية يقف على رأسها رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، وزعامة التحالف الوطني الجديدة، تدعمهما قوى من مختلف المكونات الا ان هذا التوجه ليس مرحبا به تماما من جميع الأطراف، ومن قيادات رئيسة تحولت من مجرد قيادات سياسية الى قيادات سياسية-عسكرية بشكل أو آخر. والخشية الحقيقية تكمن في احتمال انفلات الصراع بين هذه القوى في مرحلة ما بعد تحرير الموصل ليصل الى درجة صراع مفتوح لا يمكن السيطرة عليه، خالقا الظروف الدافعة نحو الذهاب الى تقسيم العراق كليا او تحويل اتحاده الفدرالي بسياسة الامر الواقع الى اتحاد كونفدرالي هزيل، قد يقول البعض ان مرجحات هذا الاحتمال ضعيفة؛ بسبب وجود قوى معارضة له في داخل العراق وخارجه، ولكن لا يمكن اهمال هذا الاحتمال واخراجه من الحسابات تحت أي مبرر.
- استمرار الفساد الإداري والمالي: لقد بدأ رئيس الوزراء حيدر العبادي ولايته الحالية في سبتمبر-ايلول عام 2014 بتعهدات صريحة قدمها لشعبه في محاربة الفساد الإداري والمالي المتغلغل في جسد الدولة حتى لو اقتضى تحقيق هذا الهدف التضحية بنفسه، ولكن مع دخول عام 2017 لا زال البلد يحتل مراكز الصدارة في الفساد الإداري والمالي، ولا زالت حيتان الفساد -كما سماها العبادي-آمنة على مواقعها وبعيدة عن قدرة الحكومة على محاسبتها ومعاقبتها، مما يدل على عمق نفوذها وتأثيرها في مؤسسات الحكومة. ان مشكلة الفساد تتمثل في أنه يفسد برامج الحكومة وخططها، ويضعف أدائها، فيقطع جسور الثقة بينها وبين مواطنيها؛ لأنه يمنعها من تحسين مستوى معيشة شعبها، لتكون النتيجة إدارة حكومية مشلولة وغير فاعلة مهما كانت إمكانيات ونوايا القائمين عليها. وضعف الحكومة يشكل خطرا كبيرا على نجاح تجربة الديمقراطية الناشئة في العراق، فالديمقراطية من دون حكومة قوية تحميها مجرد شعارات وأمنيات غير واقعية، ولا يمكن لحكومة ان تكون قوية بدون امتلاكها للقدرة على تنقية مؤسساتها من الفاسدين الذين يخربونها من الداخل.
- بقاء التدخل الإقليمي: جميع جيران العراق تورطوا منذ عام 2003 والى الوقت الحاضر بشكل أو آخر بالتدخل في شؤونه الداخلية على حساب مصلحته الوطنية العليا، ومن الثمار السيئة لتدخلهم هو ولادة داعش واخواتها من التنظيمات الإرهابية المدمرة، واستمرار هذه التدخلات ينذر ببقاء البلد ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية التي يتحمل ضريبتها الباهظة شعب العراق لا غيره. ان خطر البيئة الخارجية السلبية لا يمكن اغفاله، والاستهانة به، فلا استقرار للعراق في ظل هكذا بيئة غير مؤاتيه، ولا يمكن ردع التدخل الخارجي ما لم يمتلك العراق عوامل القوة الكافية التي تنذر جيرانه بعواقب وخيمة تصيبهم جراء أي خطوات معادية يتخذونها ويترتب عليها تهديد امنه الوطني.
- العجز عن معالجة ملف الأراضي المحررة من داعش: ان ظهور داعش وسيطرته ناجم في جزء منه عن أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية اوجدت الأرض الخصبة لتغلغل هذا التنظيم واتساعه، ومرحلة ما بعد داعش تقتضي معالجة هذه الأسباب، مضافا اليها التأثيرات النفسية والثقافية التي تركها داعش في سكان المناطق التي خضعت له، فضلا عن تأمين عودة أمنة لهم الى ديارهم، وإعادة اعمار مناطقهم بسرعة، مع وضع برنامج مصالحة شاملة بين السكان أنفسهم من جانب، وبينهم وبين حكوماتهم المحلية وحكومتهم الاتحادية من جانب آخر. ان الفشل الحكومي والدولي في هذه المهمة الصعبة والمعقدة والواسعة سيجعل القضاء على داعش مجرد انتصار غير ناجز يمهد لظهور ما هو أكثر توحشا وهمجية في المستقبل.
- غياب الرؤية لما يجب ان يحصل في اليوم التالي: التخلص من داعش لم ولن يكون هدف العراقيين، بل هو وسيلتهم الى بناء دولتهم، واستعادة زمام المبادرة بأيديهم، والخطر الحقيقي في ان تتحول الوسيلة الى هدف، فتمضي القيادات العراقية على اختلاف مسمياتها ومعها شعبها الى تحرير بلدها من سيطرة القوى الإرهابية، دون ان تعرف ماذا يجب ان تعمل بعد ذلك، فيوقعها ذلك في دوامة مستمرة من الارباك والفوضى مجهولة النتائج. ان وجود تصور لبناء الدولة العراقية داخليا وخارجيا أمر مهم في المرحلة القادمة؛ لأنه يمثل البوصلة الهادية للقيادات والناس-على حد سواء- لتحديد خياراتهم المستقبلية، وبدونها ستكون هذه الخيارات غير معلومة، وعندها سيغيب الادراك الوطني لما هو مطلوب من الجميع أن يفعلوه من اجل الحفاظ على مكتسباتهم، وبلوغ تطلعاتهم، وهذا الخطر يمثل أسوء سيناريو يضع فيه أي سياسي شعبه ودولته؛ لأنه لا يدل على محدودية قدراته فحسب، وانما يدل على عجزه عن القيادة ، لتكون النتيجة فتح الأبواب مشرعة لكل ما يهدد أمن البلاد ومصالحها العليا.
ثلاث استراتيجيات فرعية من الخطأ اهمالها
من اجل تحويل المؤشرات الإيجابية في الوضع العراقي الى مرتكزات مهمة لبناء الدولة، تسهم في تذليل العقبات والمخاوف التي تعترض طريقها توجد ثلاث استراتيجيات فرعية من المفيد جدا الالتفات اليها من قبل صانع القرار والقوى المؤثرة وهي:
- استراتيجية تعزيز الهوية الوطنية العراقية: تبرز أهمية هذه الاستراتيجية من خلال اعلائها لنزعة المواطنة كرابطة مهمة بين العراقيين تسمو على ما عداها من روابط قومية وطائفية وفئوية ممزقة للنسيج الاجتماعي، وهذه الحقيقة لم تكن غائبة أو مجهولة من قبل النخبة العراقية الحاكمة بعد 2003، ولكنها كانت مهملة ويتم التضحية بها لحساب هويات فرعية محددة، فكانت النتيجة غرسا للكراهية القومية والدينية والطائفية ... لعب الإرهاب على وترها بنجاح لينتج دمارا مرعبا على المستوى الإنساني والاقتصادي. ان قيمة تعزيز الهوية الوطنية تنبع من أنها متى ما علت على ما سواها فأنها تشعر الناس بالانتماء لوطنهم، وهذا الانتماء كفيل بخلق الولاء له بينهم لحمايته والمحافظة عليه. ولكن العمل بهذه الاستراتيجية لا يكون بدون خطة، او مجرد شعارات لفظية وقتية، بل يتطلب عملا مدروسا وبرنامجا متكاملا، يأخذ في الحسبان الأسباب التي تضعف شعور المواطن بهويته الوطنية الجامعة؛ للعمل على تجاوزها أو على الأقل تخفيفها لبدأ صفحة القبول المتبادل من الجميع للجميع، والممهدة لمرحلة الاحترام المتبادل بينهم، وصولا الى الايمان بالتعايش المتبادل بينهم بصرف النظر عن عقد الماضي ومآسيه، وعن الانتماءات الضيقة الناتجة عنه. وقد تطول مدة تنفيذ هذه الاستراتيجية الا انه لا غنى عنها من اجل عراق آمن موحد.
- استراتيجية شاملة وموحدة للأمن الوطني: عندما تسأل القيادات الأمنية والعسكرية عن الاستراتيجية الأمنية العليا للعراق تتفاجأ بجهل هذه القيادات بها؛ لأنها صراحة لا تمتلك هكذا استراتيجية، وهذا خلل خطير في البنية الأمنية للدولة، اذ لا يمكن تصور عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية لأي دولة بدون استراتيجية شاملة موحدة ترسم لها الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة، كما تحدد لها آليات الوصول اليها. ان وجود هكذا استراتيجية يعد من المرتكزات المهمة لبناء العراق في مرحلة ما بعد داعش، ومن الضروري الإسراع بوضعها وتنفيذها على الأرض بفاعلية، وأي استراتيجية أمنية مطالبة بالوصول الى ما يلي: وحدة القيادة والسيطرة داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية لضمان تكامل العمل فيما بينها، واحتواء الوجود العسكري خارج سيطرة الدولة، فضلا عن تحديد سبل التعامل مع الصراعات الإقليمية والدولية انطلاقا من قاعدة أولوية الحفاظ على الأمن الوطني العراقي.
- استراتيجية توحيد الخطاب السياسي والديني: حكمت الاحداث المؤلمة التي شهدها العراق في سنواته الأخير على أن واحدا من الأسباب الرئيسة لحصولها هو انقسام وتنازع الخطاب السياسي-الديني بين مكوناته الرئيسة، وعليه يمكن إدراك ان الحل الأساس لهذه المشكلة يقتضي توحيد لغة هذا الخطاب، وهذه المهمة يلعب الدور الرئيس فيها رجل الدين ابتداء من اصغر امام جماعة وصولا الى المرجعيات الرئيسة لكل المكونات، كما يلعبه رجل السياسة ابتداء من ابسط سياسي وصولا الى الزعامات السياسية المؤثرة، ولا يعفى احد من هذه المسؤولية؛ فخطاب الكراهية نتج عن شد سياسي-ديني، والقضاء عليه لا يكون الا بخطاب سياسي-ديني مغاير. وعلى الحكومة العراقية والقوى السياسية والدينية النافذة التحرك بقوة من اجل تقريب وجهات النظر للاتفاق على الخطوط العامة من خلال برامج متعددة ومدروسة تنتهي بالتزام الجميع بخطاب سياسي-ديني موحد يحقق المصالحة المجتمعية ويجرم كل سياسي ورجل دين او مواطن يخرق ثوابته، من خلال التأكيد على أن أي خطاب يغرس الكراهية ويستبيح المحرمات لا يقره أي دين او سياسة حكيمة وصاحبه مجرم يجب ان يعاقب.
من خلال ما تقدم، يمكن القول: ان سنة 2017 مفصلية في تاريخ العراق؛ لكونها ليست سنة ترقب للإحداث وانما سنة فعل ومبادرة، تحتاج الى عمل مضني وواعي من صانع القرار والنخب المؤثرة كافة، فما سيحصل فيها سيحكم على قدرة العراقيين على حماية دولتهم واستمرارها ونجاح تجربتها الديمقراطية الوليدة.
اضافةتعليق