مند فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية التي جرت في 8/ نوفمبر، والصحف العالمية ومواقع الانترنيت ووسائل الإعلام "المرئية والمسموعة"، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي، تعج بالأخبار والمقالات والتحليلات بشأن مستقبل الولايات المتحدة في ظل الدعاية الانتخابية وما حملته من أفكار سياسية واقتصادية للرئيس المنتخب. متسائلة في ذلك عن شكل سياسته الخارجية، وكيف ستكون؟ وما هو مستقبل التحالفات الأمريكية (السياسية والاقتصادية والعسكرية) مع حلفائها التقليديين؟
وبهذا الصدد كتب الفيلسوف الأمريكي "فرانسيس فوكوياما" بعد الإعلان عن فوز ترامب في السباق الرئاسي الأمريكي على حساب منافسته الديمقراطية "هيلاري كلينتون"، مقالة سياسية بعنوان "الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة العالم" نشرته صحيفة "ذي فاينانشال تايمز"، قال فيها بأن "فترة رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة الأمريكية، ستؤذن بانتهاء العهد الذي كانت فيه الولايات المتحدة تشكل رمزا للديمقراطية نفسها في أعين الشعوب التي ترزح تحت حكم الأنظمة السلطوية في مختلف أرجاء العالم". وفسر فوكوياما والعالم بأن (تصويت الأمريكيين على دونالد ترامب بأنه حدوث انتقال من خندق إلى آخر، أي الانتقال من "معسكر الليبرالية العالمية إلى معسكر القومية الشعبوية")، مؤكدً على أنه لم يكن مصادفة أن حاز ترامب على دعم قوي من قبل زعيم حزب الاستقلال البريطاني "نايجيل فاراج" ولم يكن مستغربا بأن يكون أول من اتصل به مهنئا له بفوزه في الانتخابات زعيمة الجبهة القومية في فرنسا "ماري لوبان". ونايجيل فاراج، يقترب كثيراً من أفكار ترامب السياسية والاقتصادية، وصاحب فكرة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكثيراً ما تثير تصرفات فاراج الجدل كما هو الحال بالنسبة للرئيس الأمريكي الجديد "دونالد ترامب"، ويعد فاراج أول شخصية سياسية بريطانية تقابل ترامب بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الاسبوع الماضي؛ وذلك عندما التقى به في برج ترامب "بنيويورك". وكذلك الحال بالنسبة لزعيمة الجبهة القومية الفرنسية التي تحلم بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وتبني آمالها على الفوز في الانتخابات الفرنسية المقبلة. إذ قالت "لوبان" في وقت سابق "مع ترشّح ترامب في الولايات المتحدة، وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، يجب على المحللين أن يكونوا أكثر تواضعاً، فنحن بصدد صحوة عالمية". إذاً نحن بالفعل أمام تحولات عالمية كبيرة "تحولات شعبوية" رافضة للأفكار السياسية السائدة "الافكار النخبوية"، لاسيما وأن هذه التحولات بدأت بوادرها مع ترشح ترامب وصعوده لرئاسة البيت البيض، وقد تتطور تلك التحولات مع صعود اليمين المتطرف في فرنسا وبريطانيا، فضلاً عن التحركات الشعبوية في إيطاليا والمانيا وبعض الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي بشكل عام. هذه التطورات أو التحركات ربما تلتقي مع أيديولوجية ترامب السياسية والاقتصادية القومية، للرجوع إلى الدولة القومية الكلاسيكية؛ لأن ترامب قومي لدرجة كبيرة حين يتعلق الأمر بالسياسة الاقتصادية، وكذلك فيما يتعلق بالنظام السياسي العالمي، وأنه صرح بوضوح أنه سيسعى لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية الحالية مثل "النافتا"، وربما أيضاً منظمة التجارة العالمية، وحلف شمال الأطلسي "الناتو". وينظر ترامب للجدوى السياسية والاقتصادية من هذه الشراكات والتحالفات، لكونها تثقل من كاهل الولايات المتحدة الأمريكية، متهماً حلفائها -حلفاء الولايات المتحدة-بالركوب والتطفل على نفوذها وقوتها. ولذلك أعلن ترامب عن استعداده للخروج من هذه التحالفات والشراكات الأمنية. وبهذا الصدد يقول فوكوياما بأن "رئاسة ترامب للولايات المتحدة الأمريكية تدشن عصرا جديدا من القومية الشعبوية، يتعرض فيها النظام الليبرالي الذي أخذ في التشكل منذ خمسينات القرن العشرين للهجوم من قبل الأغلبيات الديمقراطية الغاضبة والمفعمة بالطاقة والحيوية"، محذراً من خطورة "الانزلاق نحو عالم من القوميات المتنافسة والغاضبة في نفس الوقت، وإذا ما حدث ذلك بالفعل فإننا بصدد لحظة تاريخية حاسمة مثل لحظة سقوط جدار برلين في عام 1989". وعلى ما يبدو بان طروحات ترامب بهذا الاتجاه تنطلق من كونه رجل اقتصادي كبير ومتمرس، وعادة ما يهدف إلى الربح من تعامله مع الأخرين، وقد ينطلق من فكر براغماتي واقعي، فكر "رأسمالي شعبوي" بما يتناسب مع واقع اميركا في الداخل، ولهذا فأن ترامب مقتنع بفكرة تضرر مصالح الولايات المتحدة في الخارج؛ بسبب سياسة النظام الدولي الحالي، الامر الذي يحتم على الأخيرة الانكماش إلى الداخل؛ لإعادة هيكلة الاقتصاد الامريكي "وهي نظرة اقتصادية خالصة"، تنطلق من رؤية الرجل الاقتصادي. وقد تكون طروحات ترامب بشكل عام، تخفي ورائها توجهات سياسية واقتصادية جديدة داخل الحزب الجمهوري، تختلف عن تلك التوجهات التي تبناها الحزب في سياسته الخارجية أبان فترة تسعينيات القرن الماضي وبزوغ افكار تيار المحافظين الجدد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والقائمة على نشر الديمقراطية الليبرالية وزيادة النفوذ الأمريكي العالمي عبر القواعد العسكرية ومحاصر امبراطوريات الشر، وتكثيف الجهود الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط للحفاظ على أمن إسرائيل. وقد تكون تلك الطروحات "طروحات ترامب" مدعومة من تيار جديد وقوى اقتصادية فاعلة وقوية داخل الحزب الجمهوري؛ تمهد إلى عصر جديد في السياسة الامريكية وعلى الصعيدين (الداخلي والخارجي)؛ لبلورة مفاهيم جديدة في السياسة العالمية. ولربما يكون فوكوياما متشائماً لهذا الحد؛ بسبب أن ترامب يمثل انقلاب على الطروحات الأمريكية المعاصرة، لاسيما على فكر المحافظين الجدد الذي ينتمي إليه فوكوياما، وانقلاب على اطروحته، التي طرحها الأخير بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بعنوان "نهاية التاريخ وشيخوخة الجنس البشري" والتي تذرعت بسقوط كل الأيديولوجيات إمام المد الليبرالي والديمقراطية الليبرالية بعد سقوط الشيوعية، وبالتالي فهو انقلاب على افكار فوكوياما الليبرالية نفسها. لكن بالمجمل وبغض النظر عن المخاوف التي تحملها الطبقة السياسية النخبوية سواء الامريكية أم الغربية بشكل عام من تصاعد التيارات الشعبوية في أمريكا وأوروبا، إلا أن أكثر المؤشرات والتحليلات ترى بأن العالم مقبل على تغيرات ‘‘ربما‘‘ تطيح بالسياسات العالمية التقليدية سواء فيما يتعلق بسياسات العولمة والعالمية أو ما يتعلق بالشراكات السياسية والاحلاف العسكرية والتجمعات الاقتصادية ‘‘بدرجة أقل‘‘، والرجوع إلى مفاهيم "الشعبوية والسياسات القومية وغيرها"، وهذا يعد بمثابة الانقلاب على اسس النظام العالمي، "الذي تم تدشينه بعد الانهيار السوفيتي"، لاسيما بجوانبه "التجارية والاستثمار الدولي"، وتقويض مفاهيمه السياسية والاقتصادية والعسكرية، لاسيما مع تصاعد هذه التيارات " الشعبوية القومية" في العالم بشكل عام. وهي مؤشرات على الفشل السياسي العالمي للطبقة السياسية النخبوية "الطبقة الحاكمة". لكن ومع ذلك لا يمكن لترامب تطبيق أفكاره الانتخابية بشكل منفلت وإلى حد التهور؛ لأنه حينها سيكون أمام تحديات كبيرة سواء فيما يتعلق بقيود المؤسسة الأمريكية أو بالموقف الدولي الخارجي، ومصلحة الولايات المتحدة بشكل عام. ولهذا ربما تنكمش الولايات المتحدة نحو الداخل "بنظرة قومية شعبوية" لكن ليست بالصورة التي يصورها فوكوياما.