نظرية النافذة المكسورة أو "النوافذ المحطمة(1)" هي نظرية في علم الجريمة لإرساء القواعد، والإشارة إلى تأثير الفوضى والتخريب على المناطق الحضرية المتمثلة بالجرائم والسلوكيات المعادية للمجتمع، وهي نتاج فكر المُنظرين (واضعي النظريات) في علم الجريمة "جيمس ويلسون وجورج كيلنج". ويمكن تلخيص هذه النظرية بأن الكبائر تبدأ بالصغائر أو أن عظيم النار من مستصغَر الشرر أو صغائر الأمور بدايات عظائمها. ويرى المنظّران بأن الجريمة هي نتاج الفوضى وعدم الالتزام بالنظام في المجتمعات البشرية. فإذا حطم أحدهم نافذة زجاجية في الطريق العام، وتُركت هذه النافذة دون تصليح، فسيبدأ المارة في الظن بأنه لا أحد يهتم، وبالتالي فلا يوجد أحد يتولى زمام الأمور، ومنه ستبدأ نوافذ أخرى تتحطم على ذات المنوال، وستبدأ الفوضى تعمّ البيت المقابل لهذا النافذة، ومنه إلى الشارع، ومنه إلى المجتمع كله. ولا تقتصر النظرية على النوافذ المحطمة، بل تشمل أيضاً السيارات المهجورة، ومراتع القمامة، والأركان المظلمة من الحواري والطرقات. وقد تكون البداية من مشكلات بسيطة نسبياً مثل الفوضى العامة، لكنها في الواقع تمثل دعوات إلى المزيد من الجرائم الخطيرة. فكم من شيء بدأ كمشكلة بسيطة ثم تطورت في تعقيدها بعدد من المراحل والدوائر لتصبح نقطة تحول لنوع من الجرائم الخطيرة المنظمة، فيجب أن تردع تلك الأفعال من البداية قبل تفاقمها وتطورها وأخذها منحنيات أخرى. وجوهر النظرية مبني على علم النفس البشري الذي يقول بان الإنسان لديه قدرة وحب الانضباط والالتزام بالقوانين والآداب العامة متى ما توفرت له البيئة المشجعة على ذلك، وسرعان ما ينفك من هذا الالتزام متى ما رأى الانفلات من حوله.
وتعد هذه النظرية من النظريات التي اخذ بها القادة الأمنيين في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة تسعينيات القرن الماضي بعد ارتفاع معدل الجريمة في بعض الأماكن العامة وبعض الولايات الأمريكية، لاسيما في ولاية نيويورك. ودفع انتشار عدد من الجرائم بعض الاختصاصيين في علم الجريمة مثل "جورج كلينج" للتفكير في حل هذه المشكلة التي يزداد تفاقمها يومًا بعد آخر، إلى أن خرجوا بنظرية "النافذة المكسورة". ومن الأمثلة الشهيرة على تنفيذ هذه النظرية عمليا أنه عندما أصبح "ويليام بارتون" رئيس شرطة نيويورك عام 1994، كانت لديه خطة تغيير واضحة جدا، إذا لاحقت المخالفات النوعية التافهة مثل (الرسم على الجدران والقفز فوق بوابات المترو دون دفع ثمن التذكرة) تستطيع أن تمنع حدوث جرائم خطيرة، فتم إعادة طلاء القطارات النفقية من الداخل وإزالة الخربشات التي كان يصنعها المراهقون، وقد فهموا الرسالة وتوقفوا عن الخربشة، ثم تلا ذلك التشديد على دفع ثمن تذكرة ركوب القطارات، إذ كان نحو 170 ألف شخص يستخدمون القطار يومياً دون دفع ثمن التذاكر؛ لأن العدوى انتشرت بينهم بعد رؤيتهم لأشخاص لا يدفعون ثمن التذكرة ويستخدمون القطار، حتى وصلوا إلى مرحلة انخفاض معدلات الجريمة بشكل سريع وواضح. والأمر ليس على هذا النحو من السهولة التي قد يتخيلها البعض، فالحقيقة التي يتغافل عنها كثير من الناس، هي الدافع الحقيقي وراء كل شيء. وأن رئيس شرطة نيويورك "ويليام بارتون" لم يخلق نظامًا جديدًا وحسب، بل إنه قام في الوقت ذاته بتغيير 75٪ من مأموري دائرة قسم شرطة نيويورك أيضًا، مما يؤكد على أهمية اقتناع أعضاء المؤسسة المنوط بها تغيير سلوكيات سلبية في المجتمع بالقيم الجديدة التي سيقومون بإحلالها محل القيم الأخرى، وقدرتهم على القيام بالمهمة الجديدة.
وقد اعتمد منظرو هذه النظرية في إصلاح الأمور على نظرية "النافذة المكسورة"؛ لأنها نظرية وبائية للجريمة والسلوك الاجتماعي السلبي، حيث تقول "إنّ الجريمة معدية وأنها قد تبدأ بنافذة مكسورة، وتنتقل إلى مجتمع بأكمله. ونقطة التحول تبدأ بشيء مادي-وفي مثل هذه الحالة الخربشة-لأن القوة الدافعة للانخراط في نوع معين من السلوك، لا تنبع من شخص معين وإنما من خاصية في البيئة".
وعليه، إذا ما اسقطنا مفاهيم هذه النظرية على الدولة العراقية بكل مؤسساتها وممتلكاتها العامة سوف يعرف الجميع بأن مفاهيم هذه النظرية متغلغلة في الثقافة السياسية والشعبية العراقية على المستويين (الشعبي والرسمي)؛ لاسيما بعد العام 2003، (ونقصد بهذه المرحلة " مرحلة 2003")؛ لكونها مرحلة بناء دولة بالمفهوم الشامل وفق الرؤية السياسية الجامعة وليست المنفردة كما كانت في السابق، وأن الجميع معني بهذه المرحلة. فالإنسان بطبيعته محب للسلام والأمن والانضباط والالتزام بالقانون متى ما توفرت البيئة الآمنة والمشجعة على ذلك، وينفلت حينما يرى البيئة مشجعة على الفوضى واللا أمن، ولعل انتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة في العراق، لاسيما حالات السطو المسلح والاختطاف والقتل في العاصمة بغداد هو نتيجة طبيعية لضعف القانون وعدم احترامه، وقد تأتي حالات عدم احترام القانون من قبل السلطة نفسها متمثلة بالطبقة السياسية العراقية والأحزاب والفصائل المسلحة، وربما رجل الأمن نفسه كذلك؛ لأن احترام القانون يبدأ من الأعلى ومن ثم يتدرج للأسفل، وأن عدم احترام القانون من قبل القائمين عليه يكون عامل مشجع على الجريمة والفوضى بشكل عام. وبهذا فأن تلك الحالات قد تكون (حالات معدية)، وقد تنتقل للجميع ولكل شرائح المجتمع، وربما تبدأ من الخرابيش على الجدران أو انتشار القمامة في الأماكن العامة وغيرها من الأمور التي تشجع على الفوضى؛ لأن القوة الدافعة لذلك ليس نوع معين من السلوك أو من شخص معين وإنما من خاصية البيئة وطبيعتها. وأن بيئة مابعد 2003 خلقت ثقافات من هذا القبيل، وقد اخذ تأثرها ينتشر ويتضاعف وتغلغل في كل طبقات المجتمع، لاسيما مع ضعف القانون واستمرار حالة الصراع السياسي.
ولذلك فالعراق كدولة قد تنطبق عليه مفاهيم هذه النظرية تماما، وأن مرحلة ما بعد التغيير السياسي في العام 2003 والإطاحة بنظام صدام حسين، قد خلقت ثقافات سياسية ومجتمعية وسلوكيات عامة في ظل حالة الفوضى التي عمت البلاد وغياب القانون والرقابة وضعف سلطة الدولة. وقد استمرت هذه الحالات حتى بعد أن تشكلت الحكومات العراقية المتعاقبة ومحاولات فرض القانون وارجاع سلطة الدولة لكن هذه المرة استمرت على مستويين (على المستوى السياسي "الحكومي" وعلى المستوى الشعبي). وقد سادت ثقافة سياسية ومجتمعية عامة عند الكثيرين سواء عند المواطن أم الموظف أم من هم في سلطة أعلى في تنفيذ أو تشريع القانون" تنظر إلى الدولة والممتلكات العامة بأنها عبارة عن (غنيمة حرب) يتصارع عليها الجميع لتقاسم ثرواتها. ولهذا فأن صفقات الفساد واختلاس المال العام والسرقات المالية الكبيرة التي تعرضت لها الدولة العراقية بعد العام 2003، لا تبتعد عن مفهوم هذه النظرية؛ لأن الموظف أو المسؤول في الوزارة أو المؤسسة عندما يرى بأنه لم تتم محاسبة الموظف السابق على حالة معينة سواء كانت سرقة أو صفقة فساد أو مخالفة بسيطة، فسوف يقوم بتكرار الحادثة. وعليه فهناك بعض الأسئلة التي تطرح بهذا الخصوص، فالقانون عندما يكون مخترق من الأعلى كيف يحترم من الأسفل؟ وكيف يمكن إصلاح المجتمع والدولة قبل إصلاح السلطة والنظام؟، وكيف يمكن معالجة الفوضى المجتمعية ومشاكل المجتمع في ظل الفوضى السياسية والأمنية وانتشار السلاح؟ لاسيما وأن رئيس شرطة نيويورك "ويليام بارتون" لم يخلق نظامًا جديدًا وحسب، بل إنه قام في الوقت ذاته بتغيير 75٪ من مأموري دائرة قسم شرطة نيويورك. وربما يتوقف ذلك على تطور الثقافة السياسية والشعبية العراقية وتفهمها للوضع القائم، ومعالجة بنية الدولة العراقية وإصلاح المنظومة السياسية.
ولهذا فأن نقطة الشروع في بناء الدولة العراقية ومعالجة كل سلبيات المرحلة السابقة تتم بإعادة طلاء الدولة العراقية وإزالة المعوقات والأعراف التي صنعتها الاحزاب السياسية وإعادة مفهوم السلطة وفق الرؤية الوطنية الجامعة، وإعادة بناء الإنسان العراقي. وأن نقطة الشروع في بناء الإنسان العراقي تبدأ من خلال إصلاح السلطة والنظام السياسي وإصلاح الحكم قبل إصلاح المجتمع، وإدارة الدولة "إدارة وطنية" بعيدا عن كل المفاهيم الضيقة؛ لأن إصلاح الدولة والسلطة وفق المفاهيم الوطنية المعاصرة هو انعكاس إيجابي على سيكولوجية الإنسان بشكل عام والإنسان العراقي بشكل خاص في التفكير للمستقبل وبناء الذات (وبناء ذات هو جزء من عملية بناء الدولة)؛ لأن حالة عدم الاستقرار السياسي المستمرة تنعكس سلباً على طبيعة تفكير الإنسان وتزيد من المتاعب النفسية في ظل التفكير بالمستقبل المجهول، لاسيما وأن جوهر هذه النظرية مبني على علم النفس البشري.
1. للمزيد:
https://goo.gl/gIHJHK
اضافةتعليق