تعد الخطوة التي اتخذتها الحكومة العراقية بتعين الوزراء الخمسة "التكنوقراط" نقطة إيجابية وسط كل الانتقادات التي ما زالت توجه إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويعد وزير التعليم العالي "عبد الرزاق العيسى" احد تلك الاسماء "التكنوقراط" التي صوت عليهم مجلس النواب العراقي بالأجماع. وقد تقع عليه مهمة جسيمة في إعادة التعليم العالي والبحث العلمي إلى مستواه السابق، واستعادة العراق دوره الفاعل في النظام التعليمي العربي والاقليمي، كمقدمة لعودته إلى مصاف الدول المتقدمة في شتى المجالات المعرفية ومنافسة الجامعات الشرق أوسطية على أقل تقدير. فقد كانت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية جزء من المشروع السياسي العراقي بعد العام 2003، إذ تناوب على توليها عدة وزراء من احزاب وطوائف ومذاهب مختلفة، وكانت تمثل جزء من عملية الصراع السياسي بين الاحزاب السياسية وفق مفهوم المحاصصة الحزبية والطائفية، وخصصت لها أموال وميزانيات كبيرة منذ العام 2003، إلا أن تلك الأموال لم تذهب لتطور المسيرة العلمية والاكاديمية وبناء الجامعات وفق التطور التكنولوجي والعمراني المعاصر، وإنما كانت جزء من حالة الفساد التي نخرت جسد الدولة العراقية؛ مما تسبب بتدهور التعليم وانخفاض مستوى الكفاءة والتخصص، لتصبح بعد ذلك مخرجات التعليم العالي منخفضة المستوى وغير ملبيه لحاجة المجتمع والوزارة. هذه التركة الثقيلة التي تراكمت نتيجة الفشل السياسي والحكومي وغياب الاستراتيجية العلمية الشاملة، ستكون تحدي كبير أمام الوزير الجديد، ولاسيما في ما يتعلق بحالة التحزب والتسيس الأكاديمي، التي اصبحت واضحة وجلية. فالمحاصصة الحزبية في الجامعات اصبحت حالة طبيعية لا يمكن تجاوزها، وشملت كل رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأفرع. وأن الخطوة الأولى لإصلاح التعليم العالي وابعاده عن حالة الصراع السياسي والمنافسة الحزبية هي حظر النشاطات الحزبية بكافة أشكالها والتخلص من المحاصصة الحزبية الحالية التي هيمنت على الجامعات العراقية بعد العام 2003، وحظر كل الحركات الطلابية المرتبطة بالأحزاب السياسية. وكذلك ضرورة ابعاد الجامعات العراقية عن النشاطات الدينية المذهبية، لاسيما في الجامعات المختلطة كـ (جامعة بغداد والجامعة المستنصرية والتكنولوجية والجامعة العراقية) واقتصارها على المهرجانات والندوات العلمية المنضبطة. وقد شدد وزير التعليم العالي والبحث العلمي الجديد (عبد الرزاق العيسى) على ضرورة منع التدخل السياسي بجميع اشكاله في الجامعات العراقية والحفاظ على استقلاليتها.
قد تكون كل تلك التحديات هي مؤشرات عامة وواضحة للجميع وفي كل مؤسسات الدولة، وهي بالتأكيد تمثل عقبة كبيرة جداً أمام مشروع الإصلاح التعليمي، إلا أنها ليست العقبة الوحيدة وإنما هي العقبة الأساس التي يمكن من خلالها معالجة كل المؤشرات السلبية التي ادت إلى انخفاض مستوى التعليم في العراق منذ سبعينيات القرن الماضي. وتأتي اهمية إصلاح التعليم العالي بشكل خاص باعتباره الاداة الاستراتيجية التي يعتمد عليها في تقدم المجتمعات وحل مشاكلها الحاضرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصنع مستقبلها وترسيخ مكانتها بين الأمم في عصر لا يعترف إلا بالأقوياء، و"الأقوياء" في هذا العصر هم من امتلكوا ناصية العلم والتكنولوجيا والتعليم العالي. وقد يكون انحدار التعليم في العراق ليس وليد حالة التغيير السياسي بعد العام 2003، وإنما منذ أن تولى حزب البعث السلطة في العراق مصحوبا بحالة التضييق التي اتبعتها السلطات أنذاك على الحرية الأكاديمية والتي جعلت من الجامعات العراقية بوقاً للحزب الحاكم وبؤر للدعاية السياسية، وعسكرة المجتمع والحروب المتلاحقة وسياسات التجويع والحصار، مما ادى إلى تدني مستوى التعليم في العراق بشكل عام. وقد ازداد الوضع سوءً بعد حالة التغيير السياسي التي شهدها العراق بعد العام 2003، لاسيما مع حالة التوسع في التعليم الحكومي والأهلي. وأن الغياب الواضح للاستراتيجية التعليمية تعد من أبرز الملاحظات الانتقادية التي توجه للتعليم في العراق. ووفقاً لتقرير وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للسنوات (2011-2013)، إذ شهد العراق توسعاً ملحوظاً في عدد الجامعات، وارتفع العدد من (19) جامعة إلى (29)، وهو رقم تخطى ما رسمته الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم العالي في العراق للسنوات 2000 إلى 2011. وتم قبول 160 ألف طالب وطالبة في عام 2013-2014 في الدراسة الصباحية فقط وبزيادة قدرها 22% على عدد الطلاب المقبولين في عام 2010-2011. كما تم اضافة 96 كلية و217 قسماً و48 فرعا في الجامعات العراقية، فضلاً عن عدد من المعاهد العليا في التخصصات التقنية والطبية المختلفة. وارتفع عدد الطلاب في الدراسات العليا بنسبة 56% في خلال سنتين وارتفع عدد الكليات الاهلية من 26 كلية في عام 2010 الى 39 كلية في عام 2013 تضم أكثر من 105 الاف طالب وطالبة. ويبدو أن عدد الطلبة في الدراسات الاولية من التعليم العالي ارتفع من حوالي 416 الف إلى أكثر من 554 الف في غصون ثلاث سنوات (اي بزيادة نسبتها 33%) وارتفع عدد طلبة الدراسات العليا من حوالي 17 الف الى 30 الف (بزيادة نسبتها 76%)، وفي مقابل هذا الارتفاع الكبير لم يرتفع عدد التدريسيين من حملة الدكتوراه الا بنسبة 23% (من حوالي 12899 الى حوالي 15915)، وما يدعو للأسف انه لا تتوفر اية معلومات عن تحسن مستويات التدريسيين وزيادة معارفهم خلال هذه الفترة، ولا عن حدوث تغيير ملحوظ في النسبة العالية جدا للتدريسين من حملة الشهادات المحلية، ولا عن معدل الزيادة في الاجهزة والمعدات والانظمة الالكترونية والتي يتوقع أن ترافق الزيادة الهائلة الحاصلة في عدد طلبة الدراسات العليا. وبالرغم من أن التقرير يؤكد على قدرة الوزارة على استيعاب الاعداد المتزايدة من الطلاب توجد ادلة تؤكد العكس وهي تأتي من العمداء ورؤساء الاقسام والذين يؤكدون أن الوزارة تفرض عليهم اضعاف الطاقة الاستيعابية لكلياتهم واقسامهم، لاسيما من طلبة الدراسات العليا(1). وهذا ما يؤكد غياب الاستراتيجية العلمية للوزارة، وضعف مخرجاتها التعليمية، وعدم تناسبها مع حاجة المجتمع، وضعف القطاع الخاص وبحث الخريجين عن عمل وظيفي في القطاع العام فقط.
إن هذه الزيادة السريعة في عدد الطلاب ومن دون زيادة ملائمة في عدد التدريسين المتدربين في جامعات الدول المتقدمة ستؤدي الى انخفاض مستوى المعرفة والتدريب عند الطلاب والخريجين، يرافقها زيادة في التركيز على انماط التعليم التقليدية كالتلقين واهمال وظائف التعليم والتعلم الاخرى، ويمكن أن تؤدي بدورها الى التوسع في التعليم النظري على حساب التعليم التطبيقي والتقني.
وتأتي حالة التدهور الأمني المستمرة لمؤسسات التعليم العالي وعدم احترام حرمة الحرم الجامعي من قبل رجال الامن في بعض الاحيان ورجال الأحزاب والمليشيات وتدخلها في التعليم أو ممارستها بعض الضغوط على بعض الإداريين والتدريسيين، في مقدمة المؤشرات السلبية التي تؤشر على التعليم في العراق، وكذلك عدم الفصل بين التعليم وبعض الممارسات القبلية، كالضغوط والتهديدات التي يتعرض لها التدريسيين في الجامعات، التي ربما تهدد حياتهم في بعض الأحيان، ولهذا تعد هجرة العقول إلى الخارج نتيجة طبيعية لهذا التدهور وبسبب عدم توفير البيئة الملائمة سواء في ما يتعلق بالجوانب المادية أو العلمية سواء الضرورية منها كتلك المتعلقة بالسكن وتوفير بيئة ملائمة وصالحة لممارسة العمل والنشاط العلمي أو غيرها من الجوانب العلمية. وأن ضعف الانفاق على البحث العلمي باعتباره دعامة اساس في تطور المجتمعات، أدى إلى ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ وذلك بسبب غياب الاستراتيجية الواضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي.
كما أن إصلاح التعليم العليم العالي والبحث العلمي، لابد أن يسبقه إصلاح في قطاع التربية والتعليم لكونه الاساس الذي يبنى عليه التعليم العالي، وأن إصلاح القطاعين التربية والتعليم العالي، لابد أن يكون جزء من عملية إصلاحية شاملة تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتواصل المتبادل بين كل هذه القطاعات. وهذا بحاجة إلى استراتيجية وطنية شاملة للإصلاح (إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي وإصلاح ثقافي) فضلاً عن دور المؤسسة الدينية في إصلاح المجتمع ودورها في المصالحة المجتمعية ونبذ التطرف. لكن ومع ذلك يمكن تحسين التعليم العالي في العراق بشكل تدريجي من خلال ابعاد الجامعات والمؤسسات التعليمية عن حالة التحزب والتسيس والممارسات الحزبية والطائفية، وابعادها عن الصراع والمناكفات السياسية، وتوسيع هامش الحرية الأكاديمية الكافية للباحثين والتخلي قدر الإمكان عن مظاهر البيروقراطية والمشكلات الإدارية والتنظيمية ومواصلة التدريب المستمر للباحثين الجدد وعدم تهميشهم وتطوير قدراتهم البحثية والعلمية وارسالهم إلى الدول المتطورة لكسب الخبرة، وكذلك دعم مراكز التفكير (خزانات التفكير)، واعطائها مساحة أكبر وتذليل العقبات أمامها من اجل رفد صانع القرار وتقديم المشورة والخدمة العلمية له ولقطاعات المجتمع المختلفة، وإعادة النظر في بعض المناهج الدراسية، لاسيما المناهج التي تدّرس في الكليات الدينية والشريعة والتربية الإسلامية، والتركيز على مخرجات التعليم وفق حاجات ومتطلبات المجتمع والدولة، وتنظيم البعثات الدراسية وابعادها عن التسيس والتحزب.
--------------------------
أ.د. محمد الربيعي، مناقشة هادئة لتقرير "التعليم العالي والبحث العلمي: ارقام وحقائق، انجازات ثلاث سنوات"، 2014، شبكة معلومات دولية:
http://goo.gl/bJ6hlI
اضافةتعليق