بعد سقوط نظام البعث في العراق عام 2003 لم تثبت العلاقة بين العراق وتركيا على وتيرة واحدة، فقد بدأت بعلاقة جيدة جعلت حجم التبادل التجاري بين البلدين يصل الى عتبة 11 مليار دولار، فضلا على تبادل الزيارات المشتركة بين المسؤولين وعلى ارفع المستويات، ثم ما لبثت أن انحدرت الى درجة اقتربت من القطيعة في اواخر ولاية نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق، ثم بدأت تركيا قبل أسابيع قليلة سياسة خارجية جديدة تصب في تحسين علاقتها مع جارها الجنوبي.
ان تفسير هذا التفاوت في العلاقة بين الدولتين الجارتين يمكن تلمسه من خلال تحديد طبيعة علاقات تركيا الخارجية، ومعطيات بيئتها الداخلية، فكلما اقتربت هذه الدولة من بعض المحاور الإقليمية والدولية (محور الرياض-قطر ومحور واشنطن-أوروبا مثلا) ازدادت بعدا عن العراق؛ لان هذا الاقتراب يفرض عليها التزامات خارجية تجعلها –أحيانا-تتورط في لعبة التخندق الطائفي الإقليمي، والصراع الدولي المحفوف بخيارات متناقضة في التعامل مع القضايا الشرق أوسطية الملحة. ولكن في الوقت الذي اعتقدت فيه تركيا انها تحقق مصالحها العليا من خلال بعض سياساتها الإقليمية والدولية التي تتقاطع مع مصالح العراق جاءت النتائج عكس ذلك تماما، اذ لم يشفع لها وجودها في حلف الناتو لتكون مسموعة الكلمة في قضايا مهمة تقع بالقرب من حدودها كالأزمة السورية وما يرتبط به من ملفات معقدة كتلك المتعلقة بمصير الرئيس السوري بشار الأسد ودور الاكراد وأزمة اللاجئين السوريين وغيرها ، بل شعرت أنها مع عضويتها في هذا الحلف الا ان أمريكا والغرب عموما غير مستعد لخوض الحرب الى جانبها في حالة اندلاعها مع دولة كبرى كروسيا، وهذا ما أدركه الاتراك بعد اسقاطهم للطائرة الروسية، فضلا عن الخسائر الجمة التي تحملها الاقتصاد التركي بفعل هذه السياسات والتي لم يكن احد مستعد لتخفيف اعبائها المؤثرة على الشعب. من جانب آخر، أصبح الامن الداخلي التركي مهددا بصورة واضحة بفعل تنامي النشاط الإرهابي الديني والقومي، مما عرض وحدة هذه الدولة الى الخطر؛ بسبب المخططات المشبوهة التي تستهدف ايقاظ الشعور القومي الكردي المتطرف داخل تركيا وخارجها.
ربما اقنعت هذه المؤشرات وغيرها القادة الاتراك بضرورة إعادة النظر في حساباتهم وخياراتهم الخارجية، فكانت السياسة التركية الجديدة الساعية الى إعادة مد الجسور المقطوعة مع دول عدة على رأسها روسيا وإسرائيل والامارات والعراق وسوريا وغيرها. ولكن في هذا الوقت بالذات حصل الانقلاب العسكري في تركيا مساء الخامس عشر من شهر تموز-يوليو الماضي ببصمات أمريكية وغربية ان لم تكن متآمرة فهي راضية ومؤيدة للانقلابيين، وهذا ما عبر عنه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يوم الجمعة الماضي (29 تموز-يوليو 2016) اثناء حضوره مراسم عزاء لبعض ضحايا الانقلاب بقوله مخاطبا الغرب:" عندما يموت5 أو10 أشخاص لديكم بعملية إرهابية تقيمون الدنيا ولا تقعدوها، أليس كذلك؟ وهنا لدينا رئيس دولة ديمقراطية جاء للرئاسة بعد فوزه بـ 52% من الأصوات، وحكومة وصلت للحكم بنسبة 50%، وأنتم بدلا من الوقوف الى جانب هذه الدولة وحكومتها تقفون الى جانب الانقلابيين...أنا أتكلم بصراحة، نحن لا نعتبر أي بلد أو زعيم صديقا لنا، طالما كان لا يشعر بالقلق على الديمقراطية التركية، وحق شعبنا بالحياة، ومستقبله، بقدر شعوره بالقلق على مصير مدبري الانقلاب".
ان تركيا اليوم تعيش مرحلة ما يسمى بتطهير مؤسسات الدولة من العناصر المحسوبة على الانقلاب، وهي مرحلة قد تطول مع وجود تحذيرات متكررة من احتمال حصول انقلاب ثاني، ووجود رغبة لاستثمار الانقلاب لتحقيق المشروع السياسي الاردوغاني. وسينشغل صانع القرار التركي خلال الأشهر القادمة بترتيب بيته الداخلي مما قد يجعله اقل انغماسا بالقضايا الإقليمية، لكنه في كل الأحوال سيكون أكثر انفتاحا على الدول غير المتورطة بتهديد مصالحه او التي لم تسبب له الإحباط بفعل سياساتها اتجاهه لاسيما العراق وروسيا وسوريا وإيران، وقد بدأت ملامح هذا الانفتاح مع روسيا التي يبدو ان علاقة التطبيع معها تسير بخطى سريعة تتضح من خلال الإعلان عن عقد لقاء بين زعيمي البلدين في مدينة سان بطرسبورغ منتصف شهر اب القادم.
بصراحة جلية انها الفرصة السانحة المطلوب استثمارها من صانع القرار العراقي لإيجاد علاقة استراتيجية جديدة مع تركيا، تقوم على ثوابت واضحة تصب في مصلحة الطرفين. نعم لقد اتخذت الحكومة العراقية بعد الانقلاب الفاشل مواقف جيدة عندما صرح إبراهيم الجعفري وزير الخارجية بالقول: " ان ما يحصل في تركيا شأن داخلي نتابعه باهتمام"، وعندما أكد المجلس الوزاري للأمن الوطني على " التزام العراق بثوابت حسن الجوار والحرص على إقامة علاقات طيبة مع تركيا وعدم التدخل بالشؤون الداخلية... وصولا الى علاقات تتسم بالاحترام المتبادل وتأمين مصالح البلدين في المجالات المختلفة". ولكن هذه المواقف بحاجة الى خطوات قادمة تذيب الجليد بسرعة بين البلدين لتجعلهما أكثر قربا من بعضهما، وهذا يحتاج الى سياسة خارجية عراقية تمتلك المهارة الكافية لتحقيق هذا الهدف تسندها رؤية استراتيجية واعية لدى صانع القرار الحكومي. لقد اثبتت السياسة الخارجية العراقية منذ عام 2003 انها ضعيفة الأداء، وغير صانعة للفرص، بل وغير قادرة على استثمارها عندما توجد، وهكذا سياسة ضعيفة من المفيد ان تتوقف لتبدأ سياسة خارجية جديدة تكون أكثر استيعابا لمتطلبات بيئتها الداخلية والخارجية، وأكثر نجاحا في كسب الأصدقاء وتقليص عدد الأعداء.
على أي حال، نختم بالقول: أن أي علاقة جديدة مع تركيا-في حالة انطلاقها-من الضروري أن ترتكز على الثوابت المهمة الأتية:
1-دعم التجربة الديمقراطية وعدم القبول باتخاذ اية خيارات تستهدف اضعاف المؤسسات الديمقراطية في البلدين.
2-الحفاظ على وحدة وسيادة البلدين واتخاذ مواقف موحدة تجاه أي تهديد ناجم عن اجندات خارجية مشبوهة.
3-تعزيز التعاون الأمني والعسكري في محاربة الإرهاب وداعميه.
4-تطوير التعاون الاقتصادي في كافة المجالات وبما يحقق مصلحة الطرفين.
5-إدراك ان مصالح المنطقة لن تتحقق بحلول خارجية وانما تتطلب مواقف إقليمية جادة تستهدف تحقيق السلم والامن للجميع.
6-الفكر المتطرف مهما كانت مناشئه قومية ام دينية ام سلطوية هو شر يهدد الجميع ويجب الوقوف بحزم ضده.
اضافةتعليق