على ما يبدو بأن اجتياح تنظيم "داعش" للعراق وما تسبب به من تداعيات كارثية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي منذ العام 2014، لم يترك أثراً إيجابياً على السلوك السياسي العراقي. إذ ما يزال الصراع السياسي بين القوى السياسية وأطراف العملية السياسية محتدماً، وما يزال صانع القرار العراقي يبحث عن طريق "الإصلاح السياسي" الذي اضله بين مشاريع ومصالح القوى السياسية العراقية واجندتها الداخلية والخارجية. وأن السيد العبادي وبعد أن حسمت المحكمة الاتحادية الجدل بجلستي نيسان الماضي "ببطلانهما"، لم يعد يضع الإصلاح السياسي أو التغيير الوزاري كهدف اساس للمرحلة الحالية، لاسيما بعد أن عُرقل مشروع الإصلاح في عدة مرات من قبل بعض القوى والاحزاب السياسية. وهذا ربما سيضع السيد رئيس الوزراء في مواجهات سياسية مع بعض القوى السياسية وجبهة الإصلاح البرلمانية. هذه المواجهات ستعيد إلى الأذهان الصراع السياسي في الحكومة السابقة برئاسة السيد المالكي مع القوى السياسية العربية والكردية، والتي كانت سبباً في أفشال الحكومة السابقة وظهور تنظيم "داعش". ويبدو بأن السيد العبادي يسير على طريقة سلفه "المالكي" الذي ابتدأ ولايته الأولى بالانتصار على تنظيم القاعدة وتشكيل الصحوات وضرب "جيش المهدي" (الخارجين عن القانون كما اسماهم في حينها)، ومن ثم المواجهة السياسية مع بعض القوى السياسية كالتيار الصدري والأكراد ومن ثم العرب السنة والمجلس الأعلى إلى أن انتهى الأمر بظهور تنظيم "داعش" وفشل السيد المالكي في الحكم وإدارة الدولة، وعدم تمكنه من بلورة المشروع الوطني والاتفاق على مشروع سياسي جامع للكل.
وإن أولى هذه المواجهات قد أعلن عنها السيد رئيس الوزراء "حيدر العبادي" في كلمة له من خلال مؤتمر الإصلاح التربوي الذي نظمته وزارة التربية يوم 23/ تموز/ يوليو 2016، والذي اتهم من خلالها "السيد العبادي" الكتل السياسية التي ترفع شعار الإصلاح بالفساد، واصفاً سلوكها السياسي بالضد من الإصلاح، وأنها تستغل التفجيرات والاعمال الإرهابية التي تضرب المدنيين لصالح مشروعها السياسي، وتحاول اشغال القوات الأمنية عن المعركة الحقيقية ضد تنظيم "داعش". وهي رسالة واضحة وصريحة إلى زعيم التيار الصدري "مقتدى الصدر" وتياره الذي يرفع شعار الإصلاح ويدعوا إلى مظاهرات اسبوعية من أجل المطالبة بالإصلاح السياسي، والتي ستضع التيار الصدري ونوابه (المقاطعين لجلسات الحكومة والبرلمان) في مواجهة مع رئيس الوزراء وحكومته في الأيام القادمة. هذه المواجهة لم يدخلها التيار الصدري فقط وإنما الاكراد أيضاً، وذلك على خلفية المشاركة في تحرير الموصل من قبضة تنظيم "داعش"، ورفض الحكومة المركزية مشاركة قوات البيشمركة في عمليات التحرير، الأمر الذي اثار حفيظة القيادة الكردية ورفضها قرار منع قواتها من المشاركة في عملية تحرير الموصل، واصرارها على مشاركة قواتها وتحرير ما تسميه بـ "المناطق المتنازع عليها"، فضلاً عن الأزمات السابقة بين الإقليم والمركز. كذلك ربما تدخل حكومة السيد العبادي في أزمة جديدة مع القوى السياسية السنية؛ بسبب مشاركة الحشد الشعبي في تحرير الموصل، وتداعيات ما بعد التحرير ورفض القوى السياسية السنية لمشاركة قوات الحشد الشعبي في عملية تحرير الموصل. فضلاً عن المشاكل والأزمات القائمة بين أطراف التحالف الوطني، وكذلك أصرار جبهة الإصلاح على المضي في مشروعها السياسي الإصلاحي داخل البرلمان واقالة الرئاسات الثلاث (وربما ينضم التيار الصدري وكتلة بدر إلى جبهة الإصلاح في الأيام القادمة) ووقوفهما ضد سياسة السيد العبادي "لاسيما اذا ما اسندت وزارة الداخلية لشخص من غير كتلة بدر"، الأمر الذي من شأنه أن يحقق لها "جبهة الإصلاح" النصاب داخل قبة البرلمان، ويمّكنها من تحقيق هدفها في إقالة الرئاسات الثلاث. وهذا بالتأكيد سيدخل أطراف العملية السياسية برمتها في أزمات جديدة أو أن يقسمهم إلى قسمين، على غرار ما حدث في شهر نيسان الماضي، لتكون هناك جبهة سياسية تطالب بالإصلاح وجبهة أخرى تريد المحافظة على ما هو قائم. وقد تكون تلك المواجهات السياسية مصحوبة بتظاهرات شعبية كبيرة سواء تلك التي يدعوا لها زعيم التيار الصدري أو التيار المدني أو غيرهم من عامة الشعب والمثقفين. وهذا من شأنه أن يزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي والتدهور الامني وتردي الخدمات، لاسيما مع انتشار المظاهر المسلحة في العاصمة "بغداد"، وتمَرس تنظيم "داعش" في العمليات الإرهابية لضرب المدنيين. وهذا ما حذر منه السيد العبادي في كلمته خلال مؤتمر الإصلاح التربوي، من خلال انتقاده للدعم الإقليمي والدولي للجماعات الإرهابية و"الجماعات الأخرى" والحرب بالوكالة. وربما كان السيد العبادي يقصد بالجماعات الأخرى بعض الفصائل العراقية المدعومة إقليمياً، التي و(لربما) تدخل في مناكفات سياسية ضد حكومة السيد العبادي في مرحلة مابعد "داعش". وربما هذا يدخل في سياق التحذيرات الأمريكية من بعض الفصائل المرتبطة أيديولوجياً بولاية الفقيه في إيران.
كلمة السيد العبادي في مؤتمر الإصلاح التربوي لا تدلل على أن هناك حنكة سياسية ومشروع وطني لدى صانع القرار العراقي أو أن يكون على أقل تقدير رجل دولة بعيداً عن الانتماء الحزبي، وله رؤية سياسية واضحة بالتعامل مع الازمات والقوى السياسية بعيداً عن التهم والتسويف. ربما كان الافضل للسيد العبادي الابتعاد عن التهم لكيلا يزج نفسه في صراعات شخصية قد تكون تداعياتها سلبية في المستقبل القريب على غرار ما حدث مع السيد المالكي في الحكومة السابقة، لاسيما وأن مظاهرات التيار الصدري وغيرها من المظاهرات الأسبوعية لم تطالب بعد بإقالة السيد رئيس الوزراء أو تحمله المسؤولية، بل أنها تحمل شعارات إصلاحية كـ (محاسبة الفاسدين وتفعيل القضاء وتحسين الخدمات) وغيرها من المطالب الشعبية. ولهذا فأن على صانع القرار العراقي ترك المواجهات والسجالات الشخصية والابتعاد عن القاء التهم، والعمل على تقريب وجهات النظر بين القوى السياسية وتقديم مشروع سياسي ورؤية سياسية تكون قادرة على أقل تقدير انقاذ البلد من الوضع الراهن وتفعيل القضاء ومحاسبة الفاسدين وتحسين الخدمات الضرورية لما تبقى من عمر الحكومة؛ لأن المواجهة الحزبية أو الشخصية ستزيد الوضع سوءً، لاسيما مع قدرة زعيم التيار الصدري وامكانيته في تحريك الشارع العراقي واصراره على موضوع الإصلاح، وكذلك تصاعد السخط الشعبي ضد السياسات الحكومية.