منذ ما يقارب النصف عام، صنع الدب الروسي حدثاً على المستوى العالمي والإقليمي من خلال تدخله العسكري في سوريا بهدف معلن وهو مقاتلة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وباقي التنظيمات الأخرى. وهو الهدف ذاته الذي أعلنه الرئيس الروسي بوتين, إذ بيّن حينها أن روسيا بتدخلها العسكري وسلاحها الجوي ستتمكن من دحر تنظيم "داعش" في مدة قياسية، وأنها ستعرّي الاستراتيجية العسكرية للتحالف الدولي ضد التنظيم المذكور بقيادة الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن أغلب الدراسات والتحليلات السياسية والاستراتيجية التي ركزت على أن مصالح روسيا في الشمال الروسي ودعم النظام السوري والحفاظ عليه هو الهدف الأساس من تدخل روسيا عسكرياً، إلا أنها (أي التحليلات) لم تكن تتوقع سيناريو الانسحاب بهذا الشكل وبهذه السرعة وبقرار مفاجئ, ولاسيما أن أكثر تلك الدراسات التي كتبت بهذا الشأن (التدخل الروسي) كانت تتنبّأ بتواجد روسي طويل الأمد في المنطقة, وأن روسيا ستملأ الفراغ الذي خلفته استراتيجية أوباما في المنطقة. ولهذا كان القرار مفاجئا جداً, إلا أنه لم يخل من الدواعي السياسية والتوافقات الدولية. فما هي دواعي هذا الانسحاب؟ وهل هو انسحاب تكتيكي أم استراتيجي؟ هل فعلا تحقق الهدف العسكري الروسي أم هي سياسة توافقات عالمية بين أقطاب النظام الدولي؟.
قرار انسحاب القوات الروسية الرئيسة الذي أعلن عنه الرئيس الروسي بوتين, جاء بالتزامن مع الهدنة التي توصلت إليها الأطراف الدولية من أجل إيصال المساعدات الإنسانية لبعض القرى والمناطق المحاصرة, وإيجاد حل للأزمة السورية, وهي بالتأكيد علامة جيدة وتحول إيجابي في سير مفاوضات (جنيف 3), وقد يكون هذا القرار داعما قويا للهدنة, ومن ثم سيخلق الأرضية المناسبة لإيجاد تسوية سياسية بين أطراف الأزمة وتقريب وجهات النظر من أجل التحاور، ولاسيما بين النظام والمعارضة، وهو الأمر عينه الذي تمناه الرئيس بوتين من سحب قواته من سوريا. وربما وضع الرئيس بوتين الكرة في ملعب الإدارة الأمريكية وحلفائها في المنطقة بهذا القرار؛ لأن العقل السياسي الروسي يرى بأنه قد خلق الأجواء المناسبة للمفاوضات والمحادثات بين الأطراف المعنية من خلال ضرب الإرهاب (تنظيم "داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى)، وإعلان الانسحاب لتهيئة الأجواء المناسبة للمفاوضات. وبهذا القرار قد أعطى بوتين رسالة إلى العالم بأنه ليس رجل حرب فقط, وإنما رجل سلام أيضاً.
وربما يكون القرار قراراً تكتيكياً وفق التفكير السياسي الروسي؛ لأنه في حال خرقت الهدنة وتعثرت المفاوضات من جديد, ستتمكن القوات الروسية من إعادة تموضعها مرة ثانية في سوريا, وهذا ما نوّه إليه الرئيس بوتين بقوله: "في حال خرقت الهدنة ولم تلتزم الأطراف الأخرى بها, سنُجبر على إعادة انتشار قواتنا في سوريا من جديد خلال ساعات". ووفقاً لهذا التفكير، فإن روسيا لم تكن موضع اتهام من قبل المجتمع الدولي. وهذا بالتأكيد سيزيد الضغط على المعارضة والداعمين لها, وستكون هذه الأطراف مجبرة على احترام الهدنة وعدم خرقها. وربما يكون القرار الروسي قد جاء وفق صفقة سياسية بين الروس والأمريكان, تفضي بسحب القوات الروسية من سوريا مقابل بقاء الأسد في السلطة للمرحلة الانتقالية، ولاسيما وأن القطبين "أمريكا وروسيا" مقبلان على موسم انتخابي طويل, إذ لا يريد الطرفان الانغماس في مشاكل منطقة الشرق الأوسط بعيداً عن الانتخابات ودون جدوى. وقد يكون ذلك ضمن عملية تقاسم الأدوار بين القطبين, فالولايات المتحدة نأت بنفسها عن دعم المعارضة السورية على الأرض وتوفير الغطاء الجوي لها. بموازاة ذلك, قد يكون القرار الروسي إداة ضغط على الأسد, على الرغم من نفي الكرملين بأن يكون هذا القرار كذلك؛ لأن قرار الانسحاب جاء بعد أخذ الموافقة السورية والاتفاق والتفاهم مع الرئيس بشار الأسد, وهذا ما أشار إليه الرئيس بوتين, لكن بعض المصادر تؤكد أن القرار جاء بعد مكالمة هاتفية صاخبة من بوتين للرئيس بشار. وربما يكون هدف الانسحاب هو هدف توافقي روسي أمريكي من أجل ممارسة الضغط المزدوج على النظام والمعارضة، ولاسيما بعد نجاح الأطراف المعنية في وضع الهدنة ووقف العمليات, التي من الممكن أن تفضي إلى نجاح مفاوضات (جنيف 3). وقد يكون ثمن الانسحاب الروسي والضغط على الأسد بالنسبة لواشنطن هو التأكيد على بقائه (أي الأسد) للمرحلة الانتقالية والحفاظ على الحظوظ الروسية وتواجدها العسكري في سوريا, وبخاصة في الجزء الشمالي السوري في مرحلة ما بعد الأسد, وأن تراعى المصالح الروسية في مستقبل سوريا (المحافظة على النفوذ الروسي في شرق البحر الأبيض المتوسط). ومن الممكن أن يكون أحد الدوافع الروسية الأمريكية من هذا القرار هو بسبب رفض النظام السوري على لسان وزير الخارجية السوري وليد المعلم, بأنهم غير معنيين بالانتخابات الرئاسية السورية المزمع أجراؤها بعد (18) شهرا، التي أعلن عنها المبعوث الأممي دي مستورا؛ لكون أن وفد النظام السوري كان يتكلم عن انتخابات برلمانية سورية في (جنيف وميونخ) وليس عن انتخابات رئاسية قد تطيح بالأسد, وهذا بالتأكيد مالا يستسيغه النظام السوري. ولهذا قد يكون القرار الروسي قرارا سياسيا توافقيا بينهم وبين الأمريكان من أجل الضغط على حلفائهم في المنطقة لإيجاد حل للأزمة السورية, ولاسيما في ظل تزايد أعداد اللاجئين السوريون إلى أوروبا. وقد يكون ثمن هذه الصفقة بين الروس والأمريكان هو التفاهم وتقاسم الأدوار ومناطق النفوذ في مرحلة ما بعد الأسد. إذاً، هي قرارات مصالح طبخت بين الأقطاب الدولية ضمن لعبة تقاسم الأدوار في المنطقة.
وبهذا، لايمكن حصر قرار الانسحاب بهدف تكتيكي معين أو هدف استراتيجي ضمن رؤية أحادية الجانب, وإنه لم يأخذ بنظر الاعتبار المصالح الروسية دون المصالح الأخرى، ولاسيما أن القرار قد جاء بمباركات دولية أوربية وأمريكية, وهو بذلك ربما يكون بهدف تلطيف الأجواء بين الروس والقارة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية بدواعٍ سياسية واقتصادية, قد يكون رفع العقوبات عن روسيا جزء منها, وهو بذات الوقت يدلل على أن روسيا دولة راعية سلام وليس راعية حرب فقط. ولهذا، على صانع القرار العربي والإقليمي أن يدرك ما يجري في دهاليز السياسة الدولية وما يطبخ بها من مشاريع إقليمية. وعليه، يمكن أن نتساءل: هل يكون قرار الانسحاب الروسي الخطوة الأولى الممهدة لحل الأزمة السورية؟ أم إن خيوط المصالح الدولية والإقليمية في سوريا والمنطقة ما زالت متشابكة ومتداخلة ولم تحل بعد؟.