كثير هي الرسائل التي ارادت الإدارة الأمريكية ودول المنطقة, والعالم اجمع, ايصالها إلى الحكومة العراقية والشعب العراقي بعد اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" لبعض المحافظات العراقية في منتصف العام 2014. فمنذ الأيام الأولى للاجتياح وبعد أن سيطر تنظيم "داعش" على بعض الاجزاء من تلك المحافظات, اشترطت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدتها للعراق والحكومة العراقية بتشكيل حكومة وطنية بعيدة عن رئاسة المالكي, تضم الجميع, وأن يكون المكون السني جزء حقيقي من تلك الحكومة, إلا أن المساعدة الأمريكية بعد تشكيل الحكومة العراقية لم تكن بالمستوى المطلوب؛ بسبب امتعاض واشنطن من القوى السياسية العراقية من الفشل المتكرر في الاندماج السياسي, وافشالها لمنظومة الدولة العراقية برمتها, وحالات التهميش والتسيس التي شهدتها مؤسسات الدولة, والاضعاف المتعمد للمؤسسة العسكرية العراقية بتشكيلات مسلحة خارج أطار المؤسسة العسكرية الرسمية, فضلاً عن توسع النفوذ الإقليمي في العراق, وضعف الإرادة الوطنية المضادة لذلك التوسع. وقد يكون السر في هذا الدعم المتذبذب من قبل الإدارة الأمريكية هو بقصد ارغام حكومة العراق والقوى السياسية على دورها في مواجهة الإرهاب, واسشعارها بالأخطاء التي ارتكبتها خلال الفترات السابقة؛ لغرض بلورة فكر إصلاحي جديد لدى صانع القرار العراقي والقوى السياسية لقيادة الدولة العراقية, وهو بنفس الوقت جرس انذار من قبل واشنطن؛ بأن الوضع العراقي الداخلي لم يعد يحتمل تلك الحماقات السياسية التي افرزت تنظيم "داعش", والتي تسببت في انهيار الدولة العراقية؛ بسبب استشراء الفساد المالي والسياسي وتسيس القضاء والمؤسسة العسكرية, والعجز الاقتصادي الذي ضرب الاقتصاد العراقي.
واحدة من الرسائل التي ارادت الإدارة الأمريكية ايصالها على المستويين الداخلي والخارجي من خلال عمليتي تحرير تكريت والرمادي, على الرغم من اختلاف الصورتين في عمليتي التحرير هي "الرهان على المؤسسة العسكرية العراقية الرسمية بعيداً عن كل المسميات الاخرى". تكريت التي حررت بقوات الحشد الشعبي والفصائل المسلحة المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي, والتي نجحت بسرعة قياسية في عمليات التحرير, إلا أن الرسالة التي ارسلتها أمريكا من هذا التحرير, بأن هذا التحرير ليس الخيار الافضل, لا للحكومة العراقية ولا للدولة العراقية سواء على المدى القريب أو البعيد, داخلياً وخارجياً؛ بسبب تداعيات مرحلة مابعد التحرير على المستوى الداخلي, والتي عادةً مايشوبها خروقات وانقسامات سياسية تفسد طعم الانتصار فضلاً عن الانطباعات الإقليمية والدولية على المؤسسة العسكرية العراقية, التي يعدها البعض بأنها اضعاف لدور المؤسسة العسكرية بكل صنوفها؛ وهذا سيترتب عليه تداعيات على مستوى الدعم العسكري واللوجستي للمؤسسة العسكرية, مما يجعلها مؤسسة غير جديرة بالثقة وبالتالي, قد يفقدها ذلك أهم عناصر تقويمها ودعمها دولياً. أما حالة مدينة الرمادي, التي راهنت عليها الولايات المتحدة الأمريكية بقوات الأمن العراقية من "الجيش والشرطة وقوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وأبناء العشائر من محافظة الانبار", واصرار واشنطن على استبعاد الحشد الشعبي والفصائل المسلحة من عمليات التحرير, هي رسالة مبطنة تحمل صورة ثانية عكس صور التحرير لمدينة تكريت, وهي الصورة التي ستراهن عليها الإدارة الأمريكية في عمليات تحرير محافظة الموصل. بين تلك الرسالتين لعمليات التحرير, هناك هدف أمريكي, وهو بأن لا خيار أمام الحكومة العراقية عن الجيش الرسمي وقوات الأمن العراقية في احلال الأمن وطرد تنظيم "داعش", إذا ما إرادت الحكومة العراقية الحفاظ على كيانها, واستمرار الولايات المتحدة بدعمها سياسياً وعسكريا؛ لأن الرهان على قوات الحشد الشعبي والفصائل المسلحة له تداعيات خطيرة على مستقبل الدولة العراقية بشكل عام, والمؤسسة العسكرية العراقية بشكل خاص, وقد يستغل ذلك مره اخرى في تحشيد ابناء المكون السني من قبل الجماعات المتطرفة ضد الحكومة, فضلاً عن عدم رغبة الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة عسكرية ولوجستية لقوات غير نظامية, تعدها "واشنطن" بأنها تهديد لمصالحها الحيوية في المنطقة, وممثلة لإرادة إقليمية في العراق, هدفها الرئيس السيطرة على المشهد السياسي والعسكري في العراق, وربما يتيح لها التطور السياسي والدعم العسكري الإقليمي قلب نظام الحكم في العراق في المستقبل البعيد, وتقويض دور واشنطن.
هذه الرسالة الأمريكية في تحرير الانبار, هي بنفس الوقت رسالة داخلية للمكون السني العراقي, لإعادة ثقتهم بقوات الأمن العراقية والجيش العراقي, واستشعار أهل السنة بدورهم السياسي وهويتهم الوطنية, وقد كانت لتلك الرسالة الأمريكية ترحيب من قبل بعض القوى السياسية السنية في الحكومة العراقية التي عدتها "تحرير الرمادي" بأنها مرحلة مهمة الإعادة ثقة المواطن الانباري بالجيش العراقي, وأن هذا التحرير أكد حقيقة أمنية مفادها أن تحرير الارض لايمكن أن يتم الا من خلال الجيش والقوات العراقية الرسمية, وأن أي محاولة للاعتماد على قوات غير نظامية ستزيد المشهد العراقي تعقيدا كون حسم المعركة بشكلها النهائي من خلال قوات الأمن العراقي من الجيش والشرطة هي نقطة إيجابية بحد ذاتها للحكومة العراقية والجيش العراقي. فالهدف والرسالة الأمريكية من هذا التحرير واضحة, وهو بنفس الوقت تقويض ليس لكل قوات الحشد الشعبي المنخرطة في صفوف الجيش العراقي, وإنما هو تقويض لدور الفصائل المسلحة, التي تعدها واشنطن بأنها ممثلة لأجندة سياسية إقليمية في العراق, لاسيما تلك الفصائل التي تضع عليها الولايات المتحدة "فيتو" أمريكي ودولي.
إذاً هي رسالة للحكومة العراقية وصانع القرار العراقي, ورسالة للمكون السني العراقي والتحالف الشيعي, بأنه لا يمكن التعويل على منظومة أمنية غير رسمية في عمليات التحرير والمواجهة ضد تنظيم "داعش", لأن سلاح تلك القوات, هو سلا ذو حدين, سواء كان بالصورة الطائفية التي ينقلها "داعش" للعالم المتطرف بأنها حرب طائفية "سنية شيعية", أم بتلك الصورة التي ستترتب عليها تداعيات خطيرة, اخطر من المرحلة الراهنة, وبموازاة ذلك, هي رسالة إقليمية لبعض دول المنطقة, التي تراهن على اضعاف المؤسسة العسكرية العراقية, وقوات الأمن في سبيل تثيبت موطئ قدم دائمة لها في العراق. وعليه فالحكومة العراقية عليها تأطير تلك القوات, ودمجها بالمؤسسة العسكرية, وتقويض دور البعض منها أو حصر دورها كمؤسسة أمنية وإخضاعها للقانون والدستور.