لم تعد الأزمة السورية أزمة داخلية فقط، وإنما تحولت إلى أزمة داخلية بأبعاد دولية وإقليمية، وكل الدول تبحث عن موطأ قدم ونفوذ لها في مستقبل سوريا لمرحلة ما بعد الأسد. وحتى تلك الدول المتفقة على رحيل بشار الأسد، هي متفقة من حيث الهدف العام المتمثل بإسقاط بشار، إلا أنها مختلفة في التكتيكات والرؤية السياسية لمرحلة ما بعد بشار. هذا التعقيد في الأزمة السورية ليس لتعقد الحلول الداخلية، وإنما لتعدد الأطراف الدولية والإقليمية التي تدير الأزمة، فهناك جبهتان، جبهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الخليجيين وتركيا، فضلاً عن بريطانيا وفرنسا وألمانيا؛ وجبهة أخرى، هي الجبهة الروسية الإيرانية وحلفائهما في المنطقة، الحليفة للنظام السوري. هاتان الجبهتان تحملان رؤى وأجندة واستراتيجيات مختلفة، وربما الاختلاف كذلك حتى داخل التحالف الموحد كما أسلفنا. فعلى سبيل المثال، الرؤية السعودية تختلف عن الرؤية التركية أو القطرية، وربما أيضاً الرؤية الأمريكية تختلف عن هاتين الرؤيتين، وهذا بالتأكيد سيزيد الحل السياسي تعقيداً، ولاسيما في ظل عدم التوصل إلى حلول مرضية بين الطرفيين. ولهذا فواحدة من إشكاليات التحول السياسي في سوريا هو غياب الرؤية الجامعة لكل الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالأزمة السورية، فضلاً عن غياب الهدف المشترك وتوحيد الرؤى بين أطراف المعارضة، وهذا ما كشف عنه مؤتمر الرياض والمؤتمرات التي عقدت بالتزامن مع هذا المؤتمر في داخل سوريا.
البيان الختامي لمؤتمر المعارضة السورية الذي انعقد في العاصمة السعودية الرياض يوم الخميس 10/كانون الأول/ديسمبر، اعتمد على (جنيف 1) كمرجعية لأي مفاوضات بشأن حل الأزمة السورية، ولم يُشر في البيان إلى مسألة حكومة الوحدة الوطنية الذي تحدث عنها اجتماع (فيينا (2، واستبدلها بهيئة الحكم الانتقالي، والتأكيد على ضرورة مغادرة بشار الأسد مع بداية المرحلة الانتقالية. ووفقاً للبيان، فقد تشكلت هيئة تنسيقة مؤلفة من 30 عضوا تضم جميع القوى المعارضة المجتمعة في الرياض، فضلاً عن مخرجات أخرى أكد عليها المؤتمر والبيان الختامي. هذا البيان الذي رسم السيناريو المستقبلي لمستقبل سوريا، والذي لاقى ترحيبا من قبل الإدارة الأمريكية على الرغم من تحفظها على بعض النقاط، يبدو أنه يحمل درجة كبيرة من التعقيد والإشكاليات، سواء الإشكاليات المتعلقة بالتصادم مع السيناريو المضاد الذي ترسمه روسيا وحلفائها لمستقبل سوريا أم السيناريو الذي ترسمه الدول الغربية أم تلك السيناريوهات التي ترسمها قوى المعارضة السورية بكل مسمياتها، ولاسيما إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن مؤتمر الرياض لم يجمع كل فصائل وقوى المعارضة السورية. ففي الوقت نفسه، وإلى جانب مؤتمر الرياض، كان هناك مؤتمران للمعارضة السورية عقدا داخل سوريا كما أشرنا، أحدهما في مدينة الحسكة السورية تحت عنوان "مؤتمر سوريا الديمقراطية لقوى المعارضة من أجل بناء سوريا حرة ديمقراطية"، والذي رفض فيه مؤتمر الرياض والمخرجات التي خرج بها هذا المؤتمر. كما شهدت العاصمة السورية دمشق مؤتمراً آخر للمعارضة السورية تحت عنوان "صوت الداخل"، عُدّ فيه مؤتمر الرياض باطلاً وغير شرعي؛ بسبب اعتماده على جماعات وقوى معارضة مدعومة من قبل قوى خارجية إقليمية ودولية. هذا الاختلاف السياسي بين قوى المعارضة السورية يمثل إشكالية أخرى إلى جانب الإشكاليات السابقة؛ بسبب الاختلاف في التوجهات والرؤى السياسية والاستراتيجية سواء للمرحلة الحالية أم للمرحلة الانتقالية ومرحلة ما بعد الأسد أيضاً، فضلاً عن المشاكل والإشكاليات الأخرى التي تمثلت بمؤتمر الرياض، والذي انسحبت على إثره حركة أحرار الشام المدعومة من قبل تركيا وقطر؛ بسبب تأكيد مؤتمر الرياض على مدنية الدولة السورية وعلمانيتها، وهو ما عدته الحركة ضياعا للهوية الإسلامية. هذه الإشكالية كذلك تدخل بعض أطراف المعارضة السورية في إشكالية أخرى مع تركيا التي تريد التأكيد على الهوية الإسلامية لمرحلة ما بعد الأسد، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؛ لكون واشنطن وحلفائها تؤكد على الهوية المدنية وعلمانية سوريا، واستبعاد الطابع الإسلامي، لكي لا تعيد سيناريو العراق ما بعد العام 2003 في سوريا. أما في الجهة الأخرى المتمثلة في النظام السوري والقوى المتحالفة معه، فإنها بقت صامته اتجاه كل ما حصل، باستثناء النظام السوري الذي رفض التفاوض مع اللجنة التنسيقية التي تشكلت للتفاوض مع النظام في مؤتمر الرياض، وحتى هذه اللجنة "اللجنة التنسيقية" هي تحمل بعض الغموض؛ بسبب عدم إشارة البيان الختامي لمؤتمر الرياض إلى صلاحية هذه اللجنة في التفاوض، قبل أن يعدها النظام السوري بأنها قوى إرهابية مدعومة خارجيا من قبل بعض الدول الداعمة للإرهاب رافضاً التفاوض معها. أما روسيا، فقد ردت بشكل غير مباشر على مؤتمر الرياض، إذ قالت بأن مستقبل سوريا يحدده الشعب السوري وليس روسيا، وهذا يشير إلى عدم اكتراث موسكو لمخرجات مؤتمر المعارضة السورية في العاصمة السعودية الرياض، لترد موسكو بشكل صريح مساء يوم السبت، معبرة عن رفضها القاطع لمؤتمر الرياض، والذي عدته محاولة لأن يمنح لنفسه حق التحدث باسم جميع فصائل المعارضة السورية، لتعرب وزارة الخارجية الروسية بعدها عن استعداد موسكو لمواصلة العمل الجماعي في إطار الفريق الدولي لدعم سوريا بمشاركة جميع الأطراف المعنية بلا استثناء، بهدف تسوية جملة من المسائل المتعلقة بالتمهيد لعملية سياسية سورية حقيقية وشاملة دون أي شروط مسبقة، مؤكدة بذلك على أن الشعب السوري وحده المخول بتقرير مصير سوريا.
كل هذا الإشكاليات تقود إلى إشكالية أكبر متمثلة بكيفية حل الأزمة السورية، وكيفية التوافق بين كل المعارضين حول مستقبل الدولة السورية، في ظل هذا الاختلاف الكبير بين قوى المعارضة السورية، وتعددية المجتمع السوري، والاختلاف الأيديولوجي والسياسي بين الحركات والجماعات التي تحارب النظام السوري، ولاسيما وأن البعض من تلك الحركات والجماعات المعارضة التي تقاتل النظام متهمة بالإرهاب، وبعضها ربما مصنفة تحت طائلة الإرهاب، فضلاً عن أن الإشكالية المتمثلة بالمملكة العربية السعودية التي تعد طرفاً من أطراف النزاع الدولي في الأزمة السورية، لذلك فهي ليست المكان المناسب لاجتماع المعارضة السورية وتوحيد رؤيتها، وهي متهمة في دعم أطراف وجماعات متطرفة في سوريا؛ لذلك من المفترض أن تجتمع المعارضة السورية بكل أشكالها في دولة ليست طرفا في النزاع، وليست لها أجندة وأهداف في التحولات السياسية الخاصة في سوريا. فعلى سبيل المثال، مصر يمكنها أن تقوم بذلك؛ لأن اجتماع المعارضة السورية على رأي موحد يسهل من تعقد الأزمة ويساعد في حلها سياسياً.
إذاً، وفي ظل كل هذا التعقيد والإشكاليات التي تغلف الأزمة السورية، يصعب التنبؤ بحل سياسي قريب، ولاسيما في ظل تمسك الروس والإيرانيين بحليف سياسي واستراتيجي دائم في سوريا، حتى في مرحلة ما بعد الأسد، وأن الروس لن يتخلوا عن نظام الأسد قبل أن يضمنوا لهم تواجدا سياسيا وحليفا في سوريا. لكن من الممكن أن تتقارب وجهات النظر بين الأطراف الدولية حول مستقبل سوريا بمرحلة انتقالية تحدد فيها مضامين تلك المرحلة وتمهد لمرحلة ما بعد الأسد بانتخابات من الممكن أن يحرم الأسد من المشاركة فيها، لكن في الوقت نفسه من الممكن أن تتيح لعائلته المشاركة فيها؛ لأن روسيا وإيران لا تريدان أن تعدان سيناريو مستقبلي قد يطيح بالأسد، ويأتي بقوى موالية للرياض والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائهم، وعليه قد تخسر روسيا مصالحها في سوريا بتنحي الأسد أو إطاحته، وهي غير مستعدة لهذا السيناريو إطلاقاً. وعليه من الممكن أن يكون سيناريو التحول السياسي معقدا جداً، إلا إذا اتفقت الأطراف المعنية على سيناريو أشبه بذلك السيناريو الذي يتيح للعائلة الحاكمة الترشح للانتخابات، وأن تكون جزء من العملية السياسية لمرحلة ما بعد الأسد، وهو كذلك سيناريو غير جيد، إلا أنه يعد أفضل الخيارات المطروحة؛ لأن سوريا ستكون في هذه الحالة أشبه بالعراق ما بعد 2003 من حيث الصراعات الداخلية والخارجية؛ لأن القوى السياسية السورية التي ستنبري للعمل السياسي لما بعد الأسد ستكون شبيهة بالقوى السياسية العراقية؛ لكون أغلب تلك القوى محكومة بأجندة خارجية ولاتستطيع أن تتخلى عن أجندتها الخاصة وأجندة الدول الداعمة لها، التي أتت بها سواء إلى سدة الحكم أو إلى العملية السياسية، ولهذا ستكون تلك القوى مشتتة بين الإرادة الخارجية والإرادة الداخلية، وستفشل سوريا في التحول السياسي وفي بناء دولة فعلية.