ان الدروس المستفادة من عملية اغتيال الظواهري هي فرصة جيدة ليتعلم منها عالم الاستخبارات ودوائر اتخاذ القرار العليا في بلادنا؛ كونها تشكل تجربة مثالية وفريدة في الاعداد والتنفيذ للوصول الى الأهداف الكبيرة بنجاح ودون أخطاء، كما تكشف عما ستكون عليه الصورة في ملاحقة هذه الأهداف في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد
في الساعة السادسة وثمانية عشر دقيقة من صباح يوم الاحد الموافق 31 تموز-يوليو 2022 تمكنت طائرة أمريكية من دون طيار من قتل زعيم تنظيم القاعدة ايمن الظواهري باستخدام صواريخ ذكية فائقة الدقة. ان طريقة تنفيذ عملية بهذا الحجم والدقة تحتاج الى تأمل عميق من قبل المؤسسات الأمنية والعسكرية ودوائر اتخاذ القرار في العراق لأسباب عديدة منها:
- ان العملية جاءت بعد سنوات طويلة مع العمل الاستخباري المتواصل منذ مقتل أسامة بن لادن الزعيم السابق للقاعدة في عملية أمريكية مماثلة في باكستان سنة 2011، حيث تم تحليل كم هائل من المعلومات وتتبع حركات جميع الأشخاص الذين لهم علاقة بالظواهري، بما فيهم اسرته (زوجته وابنته واطفالها)، وهذا يدل على ان العمل الاستخباري عمل يتطلب ذكاء وصبرا طويل واستمرارا في التركيز على الهدف للوصول الى المعلومة الموثوقة التي تتيح لمتخذ القرار الأول في الدولة اتخاذ قراره وهو مطمئن تماما للنتائج، ولا يمكن الوصول الى هذا المستوى المتقدم من العمل الاستخباري بدون وجود مؤسسات استخبارية مهنية عالية التجهيز والكفاءة لديها ما يكفي من التمويل والدعم لإنجاز مهامها.
- لقد اشتركت في العملية أكثر من دائرة حكومية كوكالة المخابرات المركزية ومستشار الامن القومي، واخضعت قبل التنفيذ الى نقاش مستفيض بين الرئيس الأمريكي جو بايدن وكبار مستشاريه وأعضاء ادارته العليا، وهذا يدل على ترابط العمل الأمني من الناحية المؤسساتية، ومركزية اتخاذ القرار في مراحله النهائية، فلا تنفرد الأجهزة الأمنية بتنفيذ الأهداف الكبيرة، بل تتعاون وتتكامل في أدوارها، كما لا يهرول متخذ القرار الرئيسي الى اتخاذ قراراته بدون استشارة مستفيضة تدرسها من كافة جوانبها، اذ بدون القيام بذلك يمكن ان تضيع المعلومات نتيجة التقاطع بين عمل المؤسسات الحكومية، لاسيما الأمنية منها، وقد يصدر عن متخذ القرار الأعلى قرارات بناء على اجتهادات شخصية خاطئة او قاصرة (حرب الكويت سنة 1990 مثال واقعي على مثل هذه القرارات الكارثية الخاطئة).
-القرارات لا تتخذ بدون دراسة الوضع القانوني للمهمة التي يجري تنفيذها، ولذا تجد الرئيس بايدن استعان بمشورة عدد من كبار المحامين في البيت الأبيض للتأكد من سلامة العملية من الناحية القانونية، وأنها لا تخرق اتفاق الدوحة مع طالبان، وان الهدف المراد تصفيته هدفا قانونيا تماما كونه متزعم لتنظيم إرهابي مستمر لسنوات طويلة. هكذا إجراءات في اتخاذ القرارات نحتاج لها كثيرا لترصين عمل جميع مؤسساتنا الحكومية، لاسيما الأمنية، فكم من قرارات أمنية اتخذت دون اشراك للمتخصصين في القانون ففقدت انسجامها مع النصوص القانونية وجعلت المؤسسة او الافراد المنفذين لها تحت طائلة المساءلة القانونية من جانب، وانتهاك حقوق وحريات الافراد من جانب آخر. وهذا يدل على ان العمل الأمني والاستخباري، بل مطلق اعمال الحكومة ليست اعمالا يقوم بها فرد او جهة واحدة، بل هي اعمال متكاملة تحتاج الى الخبير القانوني، والخبير السياسي، كما تحتاج الى الخبير الأمني والعسكري وباقي التخصصات ذات العلاقة.
-مراعاة منع الاضرار بالمدنيين قدر الإمكان، فعندما يكون المجرم شخص بعينه ينبغي عدم النظر الى كل مرافقيه او المتواجدين معه كمجرمين يجري استهدافهم، بل هم مجرد ضحايا أبرياء ساقتهم الظروف للتواجد في المكان غير المناسب مع الشخص غير المناسب، ولذا تجد ان عملية قتل الظواهري تمت في وقت وقوفه في شرفة المنزل المستهدف لتجنب وقوع ضحايا بين المدنيين. وعلى هذا المنوال يجب ان تخطط وتنفذ اجهزتنا الأمنية والعسكرية؛ لأن ذلك دليل مهنيتها وكفاءتها، ولا تكون قابلة لإساءة استعمال السلطة من قبل بعض المتنفذين فيها، كما جرى في مجزرة جبلة في بابل نهاية شهر كانون الأول-ديسمبر 2021 عندما تسببت معلومات مضللة وإجراءات غير مهنية بإبادة عائلة مكونة عشرين فردا من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء. ما نريد ان نقوله: هو ان التخلص من الهدف المقصود ينبغي ان لا يعمي الابصار والعقول فتتجاهل وجود المدنيين المتواجدين بقربه او تجعلهم مجرد اضرار جانبية مقبولة، فالتخلص من مجرم ما بطريقة خاطئة قد تحول المؤسسة المنفذة وافرادها الى مجرمين تطالهم يد الحساب والعقوبة.
-دراسة مكان التنفيذ بشكل مستفيض لاختيار افضل البدائل وأكثرها نجاحا، لذا تجد ان وكالة المخابرات المركزية عملت مجسما مشابها تماما للمنزل الذي يختبئ فيه الظواهري، ودرسته بعناية من حيث الإضاءة واتجاه الريح وطبيعة التصميم والمنازل المجاورة قبل ان تقدم على تنفيذ عمليتها، وهذا ما يجب ان تفعله مؤسساتنا الأمنية والعسكرية ودوائر اتخاذ القرارات العليا، نعم هي تقوم بذلك في الوقت الحاضر، ولكن لا بأس من التعلم اكثر من هذه التجربة والاستعانة بالفنيين والخبراء المناسبين لتزويدها بكل المعلومات التفصيلية عن المكان الذي يجري فيه تنفيذ الأهداف.
- التكنلوجيا المتطورة أمر لا غنى عنه لتحقيق النجاح، فاستعمال طائرة من دون طيار مجهزة بصواريخ ذكية يدل على ان هذا النوع من العمليات سيكون في تصاعد مستمر، وأنها يمكن ان تنفذ بدون الحاجة لوجود قوات عسكرية على الأرض في المناطق التي تجري فيها، كما يدل على ان المؤسسات الأمنية والعسكرية الراغبة في اللحاق بالدول المتقدمة عليها ان تتجهز بمثل تقنياتها لتكون في مستواها. لقد كانت الطائرة تابعة الى وكالة المخابرات المركزية الامريكية، وهذا يعني ان المؤسسات الاستخبارية لم تعد مجرد مؤسسات معلومات وقبض واغتيال وما شابه ذلك، وانما هي مؤسسات تنفيذية تتطلب تجهيزا تكنلوجيا مناسبا لتنفيذ مهماتها، وهذا ما يجب ان توفره الحكومة العراقية لمؤسساتنا الاستخبارية، بعد اخذ الملاحظات أعلاه في الحسبان، لسد الخلل والنقص الذي تعاني منه هذه المؤسسات.
- مكان تنفيذ عملية اغتيال الظواهري مهم للغاية، اذ تمت العملية اثناء تخفيه في الحي الدبلوماسي في منطقة شيربور في كابل داخل أحد المنازل التي تعود لاحد مساعدي سراج الدين حقاني وزير الداخلية الافغاني، بمعنى ان العملية تمت داخل المنطقة الخضراء المحصنة أمنيا، وهذا يدل على ان امتلاك المؤسسات الاستخبارية لمتطلبات النجاح من الموارد البشرية والمستلزمات المادية يجعلها قادرة على الوصول الى أي هدف في أي مكان من العالم، فلم تعد صعوبة المكان وبعده عقبة امام التنفيذ، ولم يعد بإمكان هدف بشري او مادي الاختباء او النجاة من استهداف ذكي تقوم بإعداده وتنفيذه مؤسسات عالية الكفاءة.
أخيرا، يمكن القول: ان الدروس المستفادة من عملية اغتيال الظواهري هي فرصة جيدة ليتعلم منها عالم الاستخبارات ودوائر اتخاذ القرار العليا في بلادنا؛ كونها تشكل تجربة مثالية وفريدة في الاعداد والتنفيذ للوصول الى الأهداف الكبيرة بنجاح ودون أخطاء، كما تكشف عما ستكون عليه الصورة في ملاحقة هذه الأهداف في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد.
اضافةتعليق