"التطرف"، لغةً ومفهوماً، يوحي الى التشنّج والتوتر، أما "التقارب"، فهو يوحي الى الانبساط والألفة، فالأول؛ مفهوم سلبي بالمرة، والثاني عكسه تماماً، وهو الأسبق في البناء الحضاري، فالمؤاخاة التي دعا اليها رسول الله صلى الله عليه وآله، بين المهاجرين والانصار في المدينة، كانت أول لبنة حضارية في بناء الأمة، ثم ظهر مفهوم "المعاداة" في مقابل "الموالاة" بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وتمظهرت بشكل واضح في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، خصوصا في شريحة الخوارج، وبذلك يكون التطرف، أول سهم يوجه نحو كيان الأمة الذي ضحّى من أجله النبي الأكرم، بما لم يفعله نبي أو رسول من قبل، بتصريحه وتأكيده هو صلى الله عليه وآله. ومذ ذاك، بدأت لغة العنف والإلغاء والتصفية، تأخذ مكانها في الخطاب الديني.
والحقيقة نقولها؛ أن الأمة ربما تواجه هاجس التمزق والفتن المظلمة، من أطراف خارجية، ومن هم وراء البحار والمحيطات، لكنها تواجه الخطر الأكبر حالياً من أطراف داخلية، ومن يصطبغون بصبغة "الإسلام"، بينما يحملون في جوهرهم الافكار العنيفة والدموية التي تعود بجذورها الى العهد الجاهلي في الجزيرة العربية، والتي سعى لتذويبها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وقدم بدلاً عنها أفكاراً سمحاء بناءة، واذا سألنا المتمسكين بتلك الثقافة الجاهلية، سواءً كانوا في إطار أنظم حكم، أو في إطار تنظيمات سياسية و تيارات فكرية، عن سبب ذلك، أجابوا أنهم إنما يقتفون "سيرة السلف" التي تتضمن منهج قطع الرؤوس وحرق البيوت والجلد والتعذيب لأتفه الأسباب، بل وتطبيقاً لأحكام خاطئة.
لكن ماذا عن سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله..؟ وما هي كلمته في هذا المجال؟
لو يراجع اتباع "السلف" طريقة تعامل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، مع الشرائح المختلفة من مجتمع المدينة، لوجدوا العجب، حيث وضع الجميع في إطار "المجتمع الاسلامي الواحد"، فالجميع عنده مسلمون، لأنهم أعلنوا أمامه الشهادتين، وإذاً يستحقون العطاء من بيت مال المسلمين، من غنائم وهبات وغيرها، فهل كان الجميع مسلمون صدقاً وحقاً..؟ بالطبع كلا، فقد كان بين المسلمين المنافقون والمتآمرون، والمتربصون بالمسلمين الدوائر،. وفي هذا دروس عديدة استوحي منها ما يلي:
1- إعطاء مفهوم "التقارب" الأولوية والأهمية، للبناء الاجتماعي، على التطرف والتمييز، وإلا كان بامكانه صلى الله عليه وأله، انتقاء شريحة معينة من المجتمع الاسلامي آنذاك، والاهتمام بهم، على أنهم الاصحاب الخلّص والمضحين والمؤمنين حقاً، بيد أن هذا الاجراء، لا يحلّ المشكلة العقائدية والذهنية المتكلسّة ضمن إطار التطرف، بقدر ما يعزز الاعتقاد لدى الطرف المقابل، بصحة اسلوبه المتطرف، وهذا هو الارضية التي تجعل الرجل منهم وهو يعيش الى قرب النبي الأكرم، ومهبط الوحي من السماء، أن يتجرأ بالسؤال الاستنكاري اليه صلى الله عليه وآله، بأن "هل هذا من عندك ام من عند الله..."؟!
2- التأكيد على أن "التطرّف" بالأساس، أمر مؤقت، ونزعة في نفس الانسان تنتابه عندما يجد نفسه عند الجدار الأخير في عقيدته وفكره وسلوكه، وقد تراكمت عليه الأدلة بخطأ ما يذهب اليه. وبالتالي فهو حالة مرضية مزعجة حتى لصاحبها، بينما "التقارب"، حالة صحية، ومحببة الى النفوس، بل هي تعبير آخر عن الأنس والألفة التي تعكس بالأساس طبيعة وجوهر الإنسان نفسه.
3- والامر الآخر الذي يشير اليه معظم المفكرين والباحثين في شأن السيرة النبوية الشريفة، أنه صلى الله عليه وآله، كان يرمي من وراء ذلك، التقليل من حدة العداوة التي يحملها المشركون والمنافقون في قلوبهم إزاء النبي والرسالة.
وبذلك نجد أن نبينا الأكرم ضمن للمسلمين التعايش والاجواء السلمية والاستقرار والسلم الاجتماعي في إطار الدين الواحد، رغم وجود الفوارق الظاهرية، من لون وعرق ولغة.. فاسلوب العنف والدموية لمخاطبة الآخرين، مرفوض من المسلم عند الرسول الأكرم، ولعل حادثة إغارة خالد بن الوليد على "بني مخزوم"، وقتل جماعة منهم، وكانوا على دين الإسلام، خير دليل على ذلك، وقد اتفقت كتب الفريقين على رد فعل النبي الأكرم صىلى الله عليه وآله، وبشدة، حيث رفع يديه الى السماء وقال: "اللهم إني أبرأ اليك مما صنع خالد". بمعنى ان هذه اللغة يجب ان تتوقف ولا تستمر مع الاجيال، إنما الاستمرارية للأخوة والتقارب والألفة بين المسلمين.
هذه الالتفاتة الدقيقة أشار اليها سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في إحدى محاضراته، بأن على المسلمين الطامحين الى تحقيق شعار "الوحدة الاسلامية"، السير في الطريق الذي سار عليه نبيهم الأكرم صلى الله عليه وآله، - وليس شخصاً آخر- والالتزام بما أوصى به لتحقيق عزة ورفعة المسلمين بأجمعهم، وهو ذلك الحديث المتواتر والشهير: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما أن تمتسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا"، واذا اراد المسلمون الامتداد الحقيقي للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فعليهم التواصل مع أهل بيت النبي والقرآن الكريم.
أما الابتعاد عن هذا الطريق الرسالي، فانه يفرز نتيجة سيئة أخرى على الصعيد الخارجي، عندما نجد المسلمون يواجهون اليوم إساءات وتجاوزات من جماعات وأشخاص في الغرب ينصبون العداء للإسلام، بتوجيه الاساءات المستمرة لشخص النبي الأكرم وللقرآن الكريم وسائر المقدسات. هذه الحقيقة يؤكدها سماحة المرجع الشيرازي – حفظه الله- حيث يلقي بالائمة والمسؤولية في كل ذلك على بعض كتب التاريخ والحديث التي لم تستنير بضياء أهل بيت رسول الله.. إنما التزمت أشخاصاً معينين ليكونوا المعيار لصحة السيرة النبوية، بل لصحة الإسلام برمته. فنجد التقولات على النبي، والاخبار الخاطئة والكاذبة عنه صلى الله عليه وآله، بما لم يفعل ولم يقل، أو الترويج لأحاديث كاذبة بشأن نزول آيات قرآنية بالذم في حالات عديدة، وإلصاقها بالامام علي بن أبي طالب عليه السلام.
من هنا؛ ومع الأخذ بنظر الاعتبار التنوع المذهبي والثقافي في الساحة الاسلامية، يكون من الضروري جداً حماية التقارب والتآخي بين المسلمين، من "فيروس التطرف الديني" والعنف الطائفي، الذي هو بالحقيقة أحد المشاريع السياسية لدى جماعات وتيارات وحتى دول في المنطقة، فلا يجب أن نقابل المشروع السياسي – الطائفي، بشعارات سياسية مماثلة، علماً أن "الوحدة الاسلامية" مفردة جميلة ومثيرة، لكن لا نجد لها مصداقية على أرض الواقع، وإن حصل الإصرار، سيكون الاصرار بالمقابل من الجهة الاخرى، وهذا ما يلحق الضرر البالغ على كيان الأمة في الداخل، وعلى سمعتها في الخارج.. وهكذا نجد اليوم أحياء سكنية شيعية، في مقابل أحياء سكنية سنية.. ومراكز ثقافية سنية في مقابل مراكز ثقافية شيعية، بل حتى الحديث عن "الوحدة" يرى فيها البعض على أنها نوع من أنواع التمدد والانتشار في البلاد الاسلامية، كما حذّرت أطراف عديدة مما يسمونه بـ "المد الشيعي".
ولابد من القول هنا؛ أن هذا "الفيروس" لم ينشأ من مسجد ولا حسينية، ولا من مدرسة علوم دينية، أو مكتبة، أو أي مركز ثقافي او ديني، إنما من أجواء التنافس المحموم للوصول الى السلطة، فقد بات واضحاً تأجيل الحديث عن تعميق الثقافة الدينية ونشر الوعي بين المجتمعات الاسلامية، وتغليب الهمّ السياسي، والوصول الى كرسي الوزارة أو البرلمان وغيرها، كونها – حسب تصور البعض- الباب الأوسع او الجسر الأقوى لتحقيق المفاهيم الاسلامية، من قبيل العدالة والحرية والكرامة الانسانية، لكن المآلات الراهنة تبين أن هذا النوع من التنافس، كلّف المسلمين في كل مكان أنهاراً من الدماء والاشلاء والدمار والخسائر الفادحة. فالشعوب الاسلامية على مختلف مذاهبها، عرفت اليوم الإلغاء والإقصاء والتكفير، قبل أن تعرف الأخوة والتعاون والتكافل، وسائر المفاهيم الانسانية والقيم الاخلاقية، وهذا ما يجعلها تتلوّى من ألم الصراعات الطائفية والازمات السياسية في دول يُحظى فيها "الاسلاميون" بامكانات سياسية ومالية ضخمة.
اضافةتعليق