مؤسسات المجتمع المدني ودورها في البناء الديمقراطي

شارك الموضوع :

شهدت السنوات الأخيرة وما تزال، نقاشا صاخبا وثريا حول موضوع " المجتمع المدني " وما يرتبط به من ظروف وظواهر ذات أبعاد إنسانية لعل من أبرزها الظاهرة الديمقراطية ، حتى أصبحت الإشارة الى موضوعة المجتمع المدني ، لازمة ضرورية في كل مناسبة تخص نقاش مشكلة الديمقراطية. وما تقدم من تلازم بين الظاهرتين ، تؤكده الولادة المتزامنة لهما مع انطلاقة النضال الديمقراطي الغربي ضد طغيان السلطة ونفوذ الكنيسة في القرن السابع عشر، عندما جرى استدعاء كل تلك الآليات والأفكار من تراث الفكر الإنساني لتفتيت قوى السلطة وجبروتها، فكان من أبرزها استظهار ما يسمى بـ (العقد الاجتماعي والمجتمع المدني ) على يد مفكري العقد الاجتماعي . وحتى عند استجلاء جوهر الظاهرتين ( المجتمع المدني والديمقراطية ) يتراءى التكامل والتقارب بينهما . فإذا كانت الديمقراطية تمثل مجموعة من القواعد والمؤسسات التي تنظم الإدارة السلمية للصراع في المجتمع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة ، فان الإدارة السلمية للصراع والمنافسة هي بعينها جوهر الوظيفة المعيارية للمجتمع المدني ؛ اذ أن مؤسسات المجتمع المدني تعد من أهم قنوات المشاركة الشعبية ومجالات ترويج فرص المنافسة السلمية في إطار السعي لإدراك أهدافها والقيام بنشاطاتها المجتمعية ؛ فالمجتمع المدني كميدان للمنافسة بين مجموعات كبيرة من الفئات ذات المصالح المتباينة , يعمل للتنسيق بين تلك المصالح , فيخلق منها قوة تكمل دور "الأحزاب السياسية الديمقراطية" في رفع مستوى الفاعلية السياسية والمهارة لدى المواطنين , وتعزيز أهمية الحقوق والواجبات في المواطنية الديمقراطية . ويذهب بعض الباحثين الى ابعد من ذلك في تصوير حالة الاعتمادية المتبادلة والتكامل بين مؤسسات المجتمع المدني والديمقراطية ، فيرون أن مؤسسات المجتمع المدني تعد السبيل الأهم من أجل تنمية الثقافة المستقلة والمطالبة باحترام حقوق الإنسان وكرامته , وكشف عورات الاستبداد , وفضح الفساد وأصحاب النفوذ , ونقل الوقائع بصدق وأمانة , لكسب ثقة المواطنين , , وهذا ما يسبب تصدع السلطة الاستبدادية , وتآكل سيطرته , ويؤدي الى انبعاث المجتمع المدني الديمقراطي جديد , كما حصل في الدول الشيوعية السابقة . وبمنطق المخالفة فان تعثر التحول الديمقراطي في أي بلد ، يرجع إلى غياب أو توقف نمو المجتمع المدني وتوقف ما يتبع له من تعزيز القيم الديمقراطية وازدهار ثقافة مدينة ديمقراطية توجه سلوك المواطنين في المجتمع وتهيئهم للمشاركة في النشاط السياسي وفق هذه القيم . وينتهي هؤلاء الى إثبات فرضية مفادها انه " من أجل بناء ديمقراطية رصينة , لا بد من بناء مجتمع مدني قوي , وبدون هذا الأخير لا تستطيع الديمقراطية أن تنمو وتتحصن" ؛ ومصاديق ذلك ما حصل في (السودان) بعد سقوط نظام (النميري) الاستبدادي حينما قرر الحاكم الجديد "سوار الذهب" تسليم السلطة لحكومة منتخبة ديمقراطيا , فكان أول حاكم يتنازل عن السلطة بإرادته , لتنتهي مع استلام البشير لمقاليد السلطة آخر فرص النهوض الديمقراطي لهذا البلد وكان السبب الأوضح لهذه الانتكاسة الديمقراطية ، يكمن جزئيا في غياب المجتمع المدني القادر على ضبط موازين المعادلة الديمقراطية والضغط من اجل إنضاج فرص نجاح التحول الديمقراطي في هذا البلد على النقيض تماما مما حصل في (اندنوسيا) حينما قادت مؤسسات المجتمع المدني فيها دفة التحولات السياسية فيها صوب غايتها الديمقراطية . إن الدور الحيوي للمجتمع المدني في تعزيز التطور الديمقراطي وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية ، ينبع من طبيعة المجتمع المدني وما تقوم به مؤسساته من أدوار ووظائف في المجتمع ، لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية . وعند تحليل البعد البنيوي لدور مؤسسات المجتمع المدني في سياق العملية الديمقراطية ، يمكن تأشير ثلاثة مستويات : الأول: هو دور تربوي ثقافي عبر استكمال حلقات وفرص التنشئة السياسية ذات المضمون الديمقراطي للمواطنين . والتدريب العملي على الأسس الديمقراطية في الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدني . الثاني : هو دور تعبوي يتحقق من خلال توسيع آفاق المشاركة السياسية ورفد المجتمع بكوادر وقيادات سياسية واعدة . الثالث : هو دور الرقابة والنقد والضغط على الحكومة اذا ما تجاوزت حدود مشروعيتها الدستورية . فعلى المستوى الأول ، لابد من التسليم بفرضية مفادها "أن البناء الديمقراطي لا يأتي إلا من خلال التنشئة السياسية السليمة التي تعتمد قيم الديمقراطية مرتكزا أساسيا لها". وبما إن التنشئة السياسية هي عملية تأهيلية وتعليمية وتثقيفية يخضع لها الفرد من أجل تفعيل دوره في المجتمع, لذا ينبغي أن تتحمل مسؤولية التنشئة السياسية للفرد مؤسسات المجتمع المدني, لكونها مؤسسات مستقلة ؛ ولكونها الاقدر على ممارسة الدور التربوي / التثقيفي في المجتمع على العملية الديمقراطية من خلال العلاقات الداخلية لكل مؤسسة والتي تنظمها لائحة داخلية أو نظام أساسي يحدد حقوق وواجبات الأعضاء وأسس إدارتها من خلال مجلس إدارة منتخب وهيئة عامة تضم كل الأعضاء وتعتبر أعلى سلطة في المؤسسة تنتخب مجلس الإدارة وتراقب أداءه وتحاسبه على ما يحققه من نتائج . وما تتضمنه هذه العملية من مشاركة في النشاطات والتعبير عن الرأي والاستماع للرأي الآخر والتصويت على القرارات والترشيح في الانتخابات وهي جميعها أمور ضرورية لأي ممارسة ديمقراطية . وهكذا تسهم مؤسسات المجتمع المدني بفاعلية في تحقيق التنشئة السياسية التي يرتقي بها الوعي السياسي لأبناء المجتمع ، عندما تقوم بعملية تثقيف الناس وإنضاج وعيهم السياسي لما يدور حولهم من قضايا ، فضلا عن تحفيزها لكوامن الرغبة في العمل السياسي الديمقراطي لدى هؤلاء الافراد عبر جذبهم الى ساحة العمل المدني المنظم ذي الطابع الجماعي والمعتمد على قيم ديمقراطية في التنظيم والقيادة واتخذا القرارات ومواجهة الأزمات المختلفة . ومع تنامي الوعي السياسي للأفراد تتصاعد الرغبة لديهم للمشاركة في العمل السياسي او التأثير فيه على اقل تقدير بداعي الخروج من شرنقة السلبية الى فضاء التفاعل والتأثير الاجتماعي المترامي الأبعاد . وهنا يتحقق المستوى الثاني لمساهمة مؤسسات المجتمع المدني في البناء الديمقراطي عبر بوابة توسيع أنماط المشاركة السياسية للجماهير وتطويرها . فإذا كان المجتمع المدني من وجهة نظر الطبقات الحاكمة هو وسيلتها لاستكمال سيطرتها على المجتمع من خلال آلية الهيمنة الأيديولوجية الثقافية عندما لا تسعفها آلية القمع باستخدام أجهزة الدولة في ضمان السيطرة الكاملة على المجتمع ، فان المجتمع المدني من وجهة نظر الطبقات المحكومة هو ساحة للصراع تستطيع من خلاله أن ترسي أساساً لهيمنة مضادة تمكنها فيما بعد من توسيع نطاق تأثيرها في المجتمع والدفع في اتجاه توسيع الهامش المتاح لها للحركة والتأثير وبلورة آليات ديمقراطية تسمح بتسوية المنازعات سلمياً وتعمق عملية التطور الديمقراطي للمجتمع . أما أهم الثمار التي ستجنيها مؤسسات المجتمع المدني في نطاق مساعيها لتطوير أنماط المشاركة الشعبية في النشاطات العامة واتخاذ القرار السياسي ، فتقع ضمن حلقة تأهيل وتدريب قيادات سياسية جديدة تكسر بها طوق الاحتكار التقليدي للممارسة السياسية من قبل الفئة الحاكمة ، وذلك حينما تجتذب المواطنين إلى عضويتها وتمكنهم من اكتشاف قدراتهم من خلال النشاط الجماعي وتوفر لهم سبل الممارسة القيادية من خلال المسؤوليات التي توكلها لهم وتقدم لهم الخبرة الضرورية لممارسة هذه المسؤولية في الحقيقة تعتبر بأنها المخزن الذي لا ينضب لتفريخ القيادات الجديدة ومصدراً متجدداً لإمداد المجتمع بها . وعند المستوى الثالث لعطاء المجتمع المدني في سبيل البناء الديمقراطي ، تقف مؤسسات المجتمع المدني لتمارس دور الرقيب اليقظ على أعمال الحكومة ، والصوت الصادق النابع من اختلاجات القاعدة الشعبية ؛ فالمجتمع المدني بقواه الاقتصادية والثقافية والأخلاقية وامتداداته الشعبية يستطيع الوقوف بوجه انحرافات السلطة وتجاوزاتها , ووضع حد لتحكمها في مقدرات البلد , خاصة عندما تنجح في كتم صوت الإعلام الصادق او تصرفه عن مجاله الحقيقي في مراقبة المسؤول والتعبير عن حاجات الناس . وهنا تنطلق مؤسسات المجتمع المدني لتوعية الناس بمخاطر الموقف على الساحة السياسية وتداعياته المجتمعية سبيلا لاستنهاض همتهم وحشد قواهم الجمعية لتكون بمثابة حاجز الصد الشعبي في مواجهة تجاوزات السلطة . ولنتذكر في هذا المقام أن كثيرا من مؤسسات المجتمع المدني قد استخدمت في عدد من الدول كأداة لمواجهة أنظمة الحكم الاستبدادي المطلق، خاصة في أوربا الغربية قبل أن تنتقل إلى الديمقراطية، كما حصل – على سبيل المثال لا الحصر - مع منظمة (تضامن) في (بولونيا) ، عندما واجهت النظام الشمولي الذي كان مواليا للاتحاد السوفييتي قبل انهياره وأدت تلك المواجهة في نهاية المطاف الى انتصار الديمقراطية وانتهاء الشمولية من هذا البلد . فمن باب أولى إذن أن يكون دور تلك المؤسسات أكثر عمقا وتأثيرا في تحصين قلعة الديمقراطية واستكمال حلقات بناءها ، إذا ما ارسي أساسها على ارض الواقع الاجتماعي .... والله ولي التوفيق .
شارك الموضوع :

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية