نزعة غائرة في غياهب التاريخ هي (عسكرة المجتمع)، تلك التي كان (حمورابي) سادس الملوك البابليين، أول من قدح شعلتها حينما فرض التجنيد الإجباري على الناس وحاول أن يلبس المجتمع لباسا عسكريا. ولم تكن (اسبارطة) اليونانية ببعيدة عن تلك الممارسة حينما أشعلت شعبها بلظى النزعة العسكرية، فكانت قدوة لمن تبعها من أمم وزعامات تروم خلق الشعب المحارب لذرائع تفرقت لكنها عادت والتقت عند تعظيم سلطة الحاكم والإمعان في استركاع الشعب، حتى وان رفعت شعار الديمقراطية.
واليوم وبعد تلك الحقب كلها، لم تزل بعض شعوب العالم المتخلف تعيش هاجس ما يسمى بـ(عسكرة المجتمع) في ثقافتها وسلوكياتها وحتى أساليب سلوكها وأنماط حكمها وحكامها.
والعسكرة من حيث التعريف والتوصيف، هي "عملية إلباس المجتمع لباس العسكر وتحويل وتنميط سلوكه الى سلوك عسكري يختلف عن الطابع المدني او العادي في الغالب "؛ أو بعبارة أخرى هي "إشاعة الروح العسكرية كآيديولوجية وتعاظم تأثير الجيش كمؤسسة اجتماعية في النظام السياسي، وفي أنساق الدولة وأنماط الحياة العادية".
فمن المفترض اذن ان لاتخرج العسكرة عن مدى وصفها على انها إستراتيجية تعبوية وتدابير احترازية تدفع اليها الضرورة والظروف الاستثنائية وتتلخص في ظاهرها بالاستعداد لمواجهة خطر عدوان خارجي يهدد البلد او خطر داخلي ينشا عن الاختلال في الوضع الأمني، وفي باطنها احكام السيطرة على افراد المجتمع وتنظيمهم بهذه الطريقة بغية تحقيق خضوعهم الكامل وسهولة انقيادهم للطغمة الحاكمة في البلدان.
وليس بالضرورة أن يخضع الجميع لملكوت الآلة العسكرية ومنظومتها الاستخبارية حتى ينطبق الوصف وتسبغ التسمية، وإنما يكفي تنمية الشعور لدى الجماهير العريضة بالتهيب من إكراه السلطة وادواتها القمعية (الأمنية) وتدخلها السافر في جميع نواحي الحياة، حتى يمسى الفرد العادي في مثل تلك الدول لايخاف من أي جهاز قضائي ورقابي بقدر خوفه من الأجهزة الأمنية والاستخبارية بعنوانها القمعي لا القانوني.
وهكذا شكلت العسكرة في أكثر الدول الشمولية او المتخلفة حالة من الكبت النفسي للشعوب وطوقتها بأسوار متعددة أولها التنصت السري والمتابعة (الظلية) وآخرها الاعتقال التعسفي، لتكون بذلك ثقافة مستشرية وحالة معاشة يوميا. أما شعارات الأجهزة الأمنية المنفذة لمفهوم العمل العسكري من خدمتها للمجتمع وحفظها لأمنه، فهي أصبحت لدى المواطن الشرق اوسطي لاتتعدى كلمات توضع على الجدران لتغازل مشاعر المسؤولين المهمين على أساس أنهم يملكون دولة مثالية الحكم والإدارة.
ومع التركيز أكثر على صورة هذه العسكرة – وان تعددت تطبيقاتها – تشخص للناظر عدة ملامح وقسمات تشترك بها اغلب تجارب العسكرة في العالم والتاريخ وهي:
- إعطاء صلاحيات واسعة للأجهزة الأمنية تتخطى الى حد بعيد حدود الدستور والبناء القانوني في الدولة.
- التغاضي عن الانتهاكات الصارخة للحقوق والحريات العامة التي تقوم بها تلك الأجهزة الأمنية.
- تسخير الموارد البشرية والاقتصادية لخدمة الأغراض الأمنية والعسكرية. (ميزانية وعدد اكبر من المنتسبين).
- انتشار السلاح بين المدنيين بصورة خارجة عن سيطرة ورقابة السلطة.
- تشبع أفراد المجتمع بثقافة العنف والقتل جراء تعايشهم مع الحروب والتنازع وأسلوب استخدام القوة واستعراضها مع ترسخ الاعتقاد بأولوية منطق القوة وأهميته في تمشية أمور المجتمع وضبط إيقاعه..
وعند امتحان هذه الصورة في محراب الواقع الذي يعيشه العراقيون اليوم نجد الكثير الذي يوصلنا للاستنتاج بان المجتمع العراقي سائر في طريق العسكرة منذ ردح كبير من الزمن، وليس في الأفق ما يعين على ترجي الخلاص القريب من كابوس العسكرة ذلك حتى بعد اقتحام ارض الحلم الديمقراطي، لأسباب في مقدمتها التاريخ الطويل من استخدام الآلة العسكرية في العراق القديم والحديث للاستحواذ على الحكم، وإحكام القبضة الأمنية على الشعب تحت وطأة التخوف من المؤامرات والتهديدات الداخلية والخارجية ؛ اذ ليس خافيا على مهتم ما عانى منه الشعب العراقي وترسخ في وعيه عبر تاريخه المرير الطويل من إرهاصات هذه النزعة العسكرية منذ أن فرض الحجاج بن يوسف الثقفي – والي الامويين في العراق - التجنيد الإجباري على أبناء العراق، وهو عين ما فعله والي بغداد العثماني مدحت باشا مرورا بسلسلة الانقلابات الفاشلة والناجحة التي أطلق شرارتها الاولى في دولة العراق الجنرال (بكر صدقي) عام 1936. وبخاصة بعد ان حل العسكر على سدة الحكم في العراق في أعقاب انقلاب 1958.
لكن تاريخ العراق قد توقفت عجلته قرابة الثلاثين عاما حينما انغرست في مغامرة العسكرة المقيتة التي قادها البعثيون بزعامة الطاغية المقبور صدام حسين ؛ فقد نجح الأخير في تحويل المجتمع العراقي الى ثكنة عسكرية بمعنى الكلمة بدءا من تكديس السلاح الى تجنيد المواطنين وإحكام القبضة عليهم بغية تطويعهم وسهولة إخضاعهم عبر اعتماد إستراتيجية تقوم على إلغاء كل مظاهر الحرية المدنية والاستعاضة عنها بسلسلة من الإجراءات السلطوية الفوقية ذات الصبغة العسكرتارية التي تكرسها أجهزة قمعية – عسكرية وأمنية – ضمن إطار مايسمى بـ(إرهاب الدولة) على أبناء شعبها.
ولم يكد ليل العسكرة ينجلي مع قدوم الغزاة الامريكان وانقشاع كابوس الحكم البعثي، حتى دخل العراق بعد عام(2003) في دوامة من العنف وغياب الاستقرار والتجاذبات الدموية التي أسفرت عن الولوج مجددا في فصل جديد من فصول (عسكرة المجتمع) تمثلت مظاهره بالاتي:
- انتشار الأسلحة المختلفة بشكل واسع بين فئات الشعب، ليس للدفاع عن النفس في مواجهة التهديدات المختلفة فحسب وانما للتفاخر والتظاهر بالفرح والحبور كلما وجدوا لذلك سبيلا.
- انتشار واسع وكبير لعصابات الجريمة والميليشيات والإرهاب خصوصا بين فئات الشباب ولاسيما التي يعاني أفرادها من الفقر او البطالة او حتى التحجر الفكري والتعصب الطائفي.
- سيادة ثقافة العنف على سلوك أفراد المجتمع عموما والالتجاء الى منهج القوة في تسوية الخلافات وفرض الإرادة وإقصاء الآخر في مقابل ضمور وانزواء صوت المنطق والتسامح حتى غرق المجتمع العراقي في بحر من الدماء لاسيما بعد الفتنة الطائفية عام(2007).
- الإنفاق الكبير على التسلح والخدمات العسكرية ويكفي لتدليل على ذلك مراجعة سريعة لكشف حساب الموازنة العامة للدولة لعام(2010) التي تضمنت تخصيص قرابة(14) مليار دولار لوزارتي الدفاع والداخلية.
- إعطاء الأولوية المطلقة للجانب العسكري والأمني مع زيادة دراماتيكية في طواقمها لتبلغ المليون فردا ونشاطاتها التي سحقت الكثير من الحقوق والحريات الناشئة في بلد الديمقراطية الغضة. في مقابل تغاضي السلطات الحكومية المرعب عن تلك الانتهاكات الصارخة.
- نشر المواقع العسكرية وثكنات الجيش والسيطرات في مراكز المدن او بالقرب منها، والاحتكاك اليومي لتلك القوات بحياة المواطن بحيث أصبحت جزءا من التركيبة الاجتماعية ومشهدا مألوف في جميع المدن العراقية تقريبا.
- تدني الثقافة العامة للكوادر العسكرية والأمنية – لاسيما بعد عمليات الدمج- وغياب الوعي اللازم بين أفرادها بأهمية حقوق الإنسان وأولوية بناء التجربة الديمقراطية على اعتبارات حماية الأمن.
- تكبيل عمل منظمات المجتمع المدني ومؤسسات الكلمة الحرة وفرض الوصاية الأمنية على نشاطها لدواعي أمنية غير مبررة.
ومع تقصي تداعيات تلك العسكرة للمجتمع واستشفاف بصماتها على اللوحة الديمقراطية، يمكن القول أن العسكرة بكل مظاهرها ومخرجاتها تمثل تعبيرا عن أزمة مركبة، سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية مثلما هي في الواقع نتاج أزمة في السلطة المدنية أو فشل في خلق سلطة مدنية يعتبر فيها استخدام القوة العسكرية هو الحل المفضل والمرغوب لمشاكل سياسية. وبكل الأحوال فهي تنطوي على تهديد للنسيج الاجتماعي وتاليا للمنظومة القيمية التي تنبني عليها التجربة الديمقراطية الواعدة، لانها نمط من العلاقات مبني على الأسس القهرية وليس الرغبة الطوعية والروح الوطنية خاصة إذا ما كانت مرتبطة بنظام دكتاتوري فاشي يميز بين مواطنيه على أسس انتماءاتهم العرقية والطائفي والمناطقية والعشائرية توظيفا لمحصلة ذلك في ادامة البقاء في السلطة.
وفي ذلك تقويض للأمن الاجتماعي مثلما هو خطر داهم على السلم الأهلي... كيف لا وإن العسكرة تقنن التفكير والحراك الاجتماعي وتقولب الحياة وفقا لمعايير تعتمد التمرتب المبني على استعباد ماهو أدنى مرتبة وهي نوع من العلاقات الاجتماعية الزائفة المبنية على أساس الخوف وليس على الأساس الوجداني والعاطفي.
واتساقا مع هذا الوصف لن تكون العسكرة إلا خطوة على طريق الشمولية ونسفا لأسس الديمقراطية إن وجدت ؛ إذ يرى أكثر الباحثين أن المفهوم بشموليته، كمنظومة فكرية ومؤسساتية سيفضي بالضرورة الى المزيد من القيود ومصادرة الحريات التي تستنشقها التجربة الديمقراطية فتلوث أجواءها، بل وتخنقها حتى تجهز عليها. فلا يمكن تصور مجتمع مستقر فيما تجري عسكرته، كما لا تنسجم المزاعم حول التحول الديمقراطي مع وجود تشكيلات ذات نزعة عسكرية تحت تسميات مختلفة، وان كانت من دون سلاح.
وقد أحسن الفيلسوف الفرنسي (منتسكيو) حين قال في كتابه الشهير (روح القوانين): (إنها لتجربة أبدية أن كل من بيده السلطة ينزع للإفراط فيها). واذا كان الأمر سجال بين حرية السلطة في فرض منطقها وأسلوبها سعيا منها او ادعاءا لتوفير الامن، وبين الحاجة لتوفير أرضية مقبولة للحرية فان الخاسر الوحيد لن يكون غير الأخيرة، كما يقول وزير العدل الفرنسي السابق روبار بادينتار: (لا حرية للأفراد والجماعات إذا كانت السلطة السياسية حرّة)، اذ لا يمكن للحريات العامة أن تتحقق وأن تزدهر وأن تكتمل إلا بتوفر عدد من الشروط السياسية والاجتماعية وهذه الشروط يمكن حصرها في مجموعتين. فلا يمكن تحقيق الحريات العامة في مجتمع شمولي ينبذ الفرد ولا يعترف به كقيمة في حد ذاته وهو الهدف من كل حياة جماعية. كما أن الحريات العامة لا يمكن أن تسود في ظل نظام سياسي غير ديمقراطي.
وفي مواجهة تلك المخاطر لن يبق لنا الا سد الذرائع وإغلاق الأبواب أمام أي توجه نحو عسكرة المجتمع عبر التوصية بما يأتي:
1- يبدو جليا انه من اهم المقدمات لحل هذه المشكلة هو وضع الدولة عموما والحكومة خصوصا هذا الموضوع في أولويات اهتماماتها وأهدافها التي تحاول إنجاحها بشتى الوسائل وجعلها مرتكزا مهما لبناء دولة المؤسسات، ووضع إستراتيجية تمتد لفترة طويلة تساهم في نزع النفس العسكري من المجتمع وإبداله بالحالة المدنية..
2- تفعيل حقيقي لمؤسسات الدولة التشريعية والقضائية قبال المنظومة العسكرية وجعل الأخيرة خاضعة لسابقتيها، وهذا بدورة يترجم واقعيا لدولة المؤسسات وامتداداتها الأخرى.
3- تقليل وإبعاد التواجد العسكري من المناطق المدنية والاكتفاء بقوات الداخلية لحفظ الأمن فيها وخفض صوت الإعلام العسكري على مستوى البلاد عموما.
4- إيجاد محددات وضوابط العمل العسكري وترسيخ مفهوم المنصب(كتكليف لا تشريف)، فاحترام الآخرين وخدمتهم هو الهدف الحقيقي للمتصدي للمسؤولية وان أفضل الناس من خدم الناس بغض النظر عن رتبته ومنصبه.
5- تقليص المنظومة العسكرية المنتفخة والمترهلة الى الحجم الفعلي الذي تحتاجه البلاد للدفاع عن أمنها وسيادتها وعدم جعلها مساحة للتشغيل او لكسب الأرزاق.
6- التركيز على ثقافة المنظومة العسكرية بذاتها ورفع مستوى أفرادها ليتماشى وطبيعة الوضع الجديد والاستفادة من الخبرات العسكرية للدول المتقدم في الانضباط العسكري.
7- ابتعاد الأحزاب عموما عن طريقة العسكرة المستخدمة في هيكليتها الداخلية وبالتعامل مع أفرادها والمجتمع عموما، والاستفادة من طريقة الأحزاب العالمية في ادارة شؤون البلاد.
8- ترسيخ مبدأ المواطنة بثوابت الولاء للوطن، وإشاعة ثقافة الخدمة المدنية قبال الخدمة العسكرية في مجالات الاعمار والبناء.
9- على النخبة المثقفة في العراق توجيه دفة الحكم باتجاه تأسيس قيم وتقاليد بل ممارسات فعلية للديمقراطية وتنميتها من خلال المؤسسات التعليمية وإفساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني لان تلعب دورا كبيرا في ذلك. تلك القيم التي تبنى على أسس مغايرة الى حد كبير لما هو سائد من قيم العنف والتعسف ومصادرة الآخر والتي ساهمت الديكتاتورية وعسكرة المجتمع في ترسيخها في الذهنية والممارسة الحياتية للمواطن العراقي. وعليه مطلوب مراجعة شاملة وباستمرار لهذه المنظومة القيمية ورصدها ومحاولة التأثير فيها في العمق، وان الحلول هنا ليست طوباوية بل هناك آليات تكفل النتائج المرجوة الى حد كبير.
7- البدء بالتركيز على المناهج الدراسية والإعلام عموما في التحدث بلسان العقلنة والتشريع القانوني والابتعاد عن كل ما من شأنه التذكير بالحروب والتاريخ المليء بذلك والتوجه نحو المادة العلمية والإنسانية البحتة، كمقدمة لإفشاء ثقافة التسامح واللاعنف، وتطوير مؤسسات المجتمع المدنـي، وتحريرهـا مـن بيروقراطيـة السلطة، وذلك لأخذ موقعها الطبيعي في نشر ثقافة التمدن المنضبط والقائم على احترام الدستور والقانون.
وكلمة في الختام لابد منها، إن سفر التاريخ وعضاته تفضي بنا الى التأكيد بروح مطمئنة أن دولة القوة عمرها قصير وشرها مستطير، فالولاء لا يأت بالخوف، وان الطمأنينة لن تولد الا من رحم الحب والتسامح. والعصا الغليظة على رؤوس العباد، لن تؤذ الا صاحبها، ولن يستقر الأمر الا بإعلاء صوت الحق والقانون فوق كل صوت.. والله ولي التوفيق
اضافةتعليق