إنما اهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد .. بمثل هذا الكلام الصريح والمؤثر خاطب رسول الإنسانية أبو القاسم محمد صلى الله عليه واله وسلم أصحابه ليضعهم على الصراط المستقيم وهم يتحركون لبناء الدولة الإسلامية المقدر لها أن تبسط لوائها على الأفاق ، محذرا إياهم من سنة أزلية أهلكت الأمم الغابرة ولا محالة ستبقى فاعلة في الأمم الحاضرة تلك السنة هي عدم المساواة بين الناس أمام القانون سواء كان هذا القانون ألهي منزل أم وضعي مبتدع ، لان التمييز بين البشر بحسب الجاه والمنصب والمال سيكون منبع لكل الشرور والآثام عندما يجد القوي نفسه بمنأى عن العقوبة بينما يجد الضعيف نفسه تحت سطوة العقاب لأقل ذنب ، فيختل ميزان العدل في المجتمع وينهار أهم ركن في ضبطه وضمان حقوق وحريات أفراده ألا وهو القانون فيفقد الأخير احترامه مرتين: الأولى من قبل الأقوياء الذين يجدون أنفسهم فوقه وغير مشمولين بتطبيق أحكامه ، والأخرى من قبل الضعفاء الذين يرونه قانونا غاشما غير عادل ، ومثل هذا الأمر سيكون سببا في انهيار المنظومة القيمية والأخلاقية في المجتمع مما يقود إلى تفسخه واندثاره وابتعاده عن الترقي والتقدم ، لذا حذرنا رسولنا الأمين من هذه الهلكة ودعانا إلى الابتعاد عنها واجتناب السير في طريقها ، وإذا كان الخطاب النبوي موجه إلى عموم المسلمين ، فأن رجال الدولة وأصحاب القرار فيها مخاطبين بشكل اخص لاسيما إذا كانوا يحملون لواء الدعوة الإسلامية ويتكلمون باسم إحياء وحفظ وحماية أحكام الدين الحنيف في شعاراتهم السياسية وتنظيماتهم الحزبية . إن تسليط الضوء على هذه الحقيقة جاء بسبب ما لمسناه ورأيناه من ازدواجية في تطبيق القانون في الدولة العراقية بعد 9/4/2003، أما قبل هذا التاريخ فأننا نجده تاريخا مظلما ، مليئا بالمآسي ، وغير جدير أن يطالب الحكام فيه باحترام القانون وهم يتلذذون بتعذيب الناس وانتهاك كل شئ مقدس وعزيز عندهم ، لذا ركزنا في مقالنا هذا على النخبة السياسية التي حكمت العراق بعد 9/4/2003 التي وعدت أبناء شعبنا ببناء دولة يتساوى فيها الجميع أمام القانون دون تمييز بينهم لأي سبب كان لأنها ستكون دولة القانون التي طال حلم العراقيين بها ، لكن دولة القانون هذه لا زالت دولة قاصرة تكيل بمكيالين عند تعاملها مع مواطنيها والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا حصر لها يكفي أن نستل منها مثلا واحدا عكسته مخاضات تشكيل الحكومة الجديدة ألا وهو كيفية تعامل القوى السياسية مع قانون اجتثاث البعث ونحن مع تطبيق هذا القانون بحذافيره مع مراعاة أسباب الرحمة والعدل والإنسانية الموجبة لتلافي بعض العيوب والممارسات التي اعترت تطبيقه ، لكن هل أن هذا القانون يصدق فقط على بعثي أمي دفعته سطحية وعيه إلى الارتماء غير الواعي في أحضان البعث وممارساته المنحرفة ، كما يصدق على موظف بسيط اجبر على دخول البعث وهو كاره تحت ضغط الخوف أو الحاجة .. ولكنه لا يصدق على أشخاص آخرين دخلوا البعث وربما كانوا راغبين ومريدين له لا لشئ سوى أن هؤلاء أصبحوا زعماء سياسيين ومتكلمين رسميين ومن أقطاب العملية السياسية الجارية في الساحة العراقية ، فيكون نصيب الأولين الإقصاء والتهميش والاتهام والرفض والزج بهم وبأبنائهم في شرك المعسكر التكفيري ألظلامي ، بينما نصيب الأخيرين هو التقدير والتبجيل ومنح أعلى المناصب والرواتب .. والسؤال المحير الذي لا أجد له إجابة وافية أيهما اخطر على المسيرة السياسية وبناء الدولة الديمقراطية في العراق بعثي بسيط ترفض التوافقات السياسية أن ترجعه لوظيفته كما ترفض منحه حقوقا تقاعدية وأحيانا حتى إنسانية أم بعثي .. تقوم بمنحه منصبا سياديا ونفوذا وسلطة لا حد لها ؟ ، والواقع يجعلنا أمام حقيقتين لا مناص منهما : أما أن لا يكون هناك خطر من الاثنين مما يقتضي معاملتهما بنفس الطريقة أو يكون هناك خطر من الاثنين يقتضي معاقبتهما معا بقانون واحد ، لذا نلفت عناية البرلمان العراقي كونه أعلى سلطة تشريعية في البلد مهمتها ضمان العدالة والنزاهة في تشريع وتنفيذ القانون إلى تدارك مثل هكذا ازدواجية خطيرة من خلال إصدار تشريعات لاحقة تراعي هذا الجانب وأن لا تكون التوافقات السياسية على حساب إحقاق الحق وضمان العدل ،فمثل هكذا ازدواجية في تطبيق القانون لا تبني دولة للقانون ، بل هي تمهد لخرق القانون من الأقوياء وعدم احترامه من الضعفاء وعندها لا يبق من دولة القانون إلا شعارا أجوفا لا يسمن ولا يغني من جوع ، كما يجب على صناع القرار العراقي الحاضر تلافي هذا العيب الخطير الذي فيه تدمير للبنية القيمية والقانونية في العراق من خلال جعل المواطنين سواسية أمام القانون في الثواب و في العقاب حتى لا يأمن مجرم من عقاب ، ولا يخاف مظلوم من حيف ، لتسير الدولة سيرا حثيثا وحقيقيا للحاق بركب العالم المتقدم بوضع الركائز والمقدمات الصحيحة والعادلة لتحقيق هذا الهدف.
اضافةتعليق