التغيير الديموغرافي وأثره على التعايش السلمي في العراق

بداية لا بدّ لنا من أن نعرف معنى التغيير الديموغرافي... فهو التحول من حالة إلى أخرى، والتحول الذي يطرأ على التنظيم أو البناء، وبهذا يعد واحد من العلوم الاجتماعية التي تعنى بقضايا المجتمع الإنساني ومشكلاته وتغيراته، ويختص بمسائل السكان وعوامل نموهم وتوازنهم النوعي والكمي، وتتأثر مفاهيمه بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها المجتمعات الإنسانية المعاصرة، فضلاً عن انه يدخل في قياس خصائص معينة للسكان مثل حجم السكان وتوزيعهم حسب نوع العمل والصناعة والتوطن والانتماء السياسي والديني والقومي. يعرف التعايش السلمي عادة بأنه نمط من العيش يسود في مجتمع معين يتم فيه رفض أشكال العنف بصوره المتعددة، أو التحريض عليه، وعدم اللجوء إليه لحل النزاعات بين الإفراد والجماعات، وهذا يتطلب توافر أركان عدة منها سيادة القانون على الجميع حكاما ومحكومين، مأسسة الدولة، نشر ثقافة التسامح وقبول الأخر، العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير اشتراطات المشاركة السياسية على الوجه الصحيح. ينذر استمرار نزوح الأقليات في العراق من مناطقها الأصلية بعد استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية داعش عليها بمخاطر جمة، منها مخاطر صحية نتيجة سكن النازحين في أماكن لا تصلح للعيش البشري، ومخاطر نفسية ناجمة عن حجم الرعب والخوف الذي عاشه النازحون بسبب بطش عناصر داعش، ومنها ما يتعلق بترك أعداد كبيرة من الأطفال مقاعد الدراسة، إضافة إلى ما يحمله ذلك من تداعيات مخيفة على التعايش السلمي ومستقبل العراق برمته. وقد أصاب المجتمع العراقي بعد الاحتلال عام 2003 اختلال بنيوي ووظيفي، لم تستطع العملية السياسية المصاحبة له إدراكه لينتج لنا في المحصلة النهائية مجتمعا منقسما تجاه كثيرا من المواقف والأحداث، وزاد الطين بله القواعد التي وضعتها سلطة الاحتلال التي لم تكن قادرة على فهم واستيعاب طبيعة المجتمع العراقي، هذا إذا ما أخذنا الأمر بحسن نية، أما إذا ما اتجهنا إلى التفسير الأخر لوجدنا إن هناك نظرة مفادها إن قوات الاحتلال هي الفاعل الرئيس في إحداث الانقسام، الذي ابتدأ من خلال الموقف الاجتماعي منه والنظرة المتباينة تجاهه بين مرحب وصامت ورافض، ثم البناء السياسي الذي أقامته، لاسيما مجلس الحكم الذي قسم السلطة على أساس عامودي، بمعنى النظر إلى المجتمع العراقي على انه مجموعة من المكونات، وان التمثيل السياسي لابد وان يعكس من خلال تمثيل هذه المكونات دون النظر إلى ابسط مدخلات البناء الصحيح للدولة الحديثة، وهذا ما أدى إلى إن يكون الحراك السياسي فيما بعد لعبة صفرية بين الأطراف السياسية قائما بالأساس على مفهوم المكونات، وهو مفهوم مضلل استطاعت من خلاله نخب سياسية إن تهيمن على هذا التمثيل من خلال إثارة الوتر الطائفي والعرقي ليكون هو العامل الأساس في عملية الاستقطاب السياسي، مثلما كان مدخلا للعنف الاجتماعي وغطاء امثل للفساد الذي تحول في العراق من ظاهرة إلى بنية ليأخذ شكل المؤسسة الصلدة التي لا يمكن ألان ولا في المستقبل المنظور مواجهتها أو الحد من قوتها ونفوذها، والأمر الأكثر دهشة إن هذه المؤسسة في إطارها الشكلي تعد بحق المؤسسة الوحيدة العابرة للهويات والجهويات والعرقيات والطوائف، وتشكل شبكة منسجمة ومتآلفة يخدم بعضها البعض ويسود العمل التكافلي فيما بين إفرادها على أفضل وجه وصورة، لتكاد إن تكون المؤسسة الوطنية الوحيدة من حيث الشكل، لكنها الأكثر تدميرا للعراق ولمجتمعه ولثرواته. وإذا عدنا إلى التغير الديموغرافي في العراق، لوجدنا انه منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ولحد ألان لازالت هناك عمليات تغيير ديموغرافي في إنحاء العراق على أساس طائفي وقومي، فقد بدأت العملية عندما نشط تنظيم القاعدة في العراق وتحديدا في المناطق الغربية ، بحجة مقاومة الاحتلال الأمريكي وإخراجه من العراق، إلا إن اغلب العمليات كانت ضد طائفة واحدة ومكون واحد في العراق، وشملت اغلب محافظات العراق، إذ إن عملياته قد أعلنت صراحة أنها ضد الاحتلال الأمريكي – ظاهريا فقط- وضد الشيعة أو ما يسميهم التنظيم بالروافض، وهو ما اعتبر إبادة جماعية تقوم بها القاعدة ضد العراقيين، فقد تم تهجير كل أبناء الطائفة الشيعية من الأنبار وأبو غريب والموصل مركز نينوى، واللطيفية في بابل وشمل التهجير كل الشيعة في المناطق السنية ، على الرغم من إن كان هناك عدد غير قليل من العراقيين السنة يسكنون محافظات الجنوب وتحديدا في البصرة والناصرية والسماوة، لم يتعرض أحدا منهم للتهجير، وما زاد من هذا الوضع هو سقوط ثلث مساحة العراق بيد تنظيم داعش الإرهابي ، إذ إن أعمال داعش الإرهابية كان لها النصيب الأكبر في تفريغ الكثير من المناطق من سكانها الأصليين وتهجيرهم، كما حدث للتركمان في تلعفر وكركوك وللمسيحيين والشبك في سهل نينوى والايزيديين في سنجار وللشيعة في وصلاح الدين، وفي موازاة الحرب على تنظيم "داعش" في العراق، تتصاعد وتيرة المخاوف من تغييرات ديموغرافية محتملة ناتجة من عمليات النزوح والتهجير، ستكون تداعياتها، سياسياً، طرح مشاريع تقسيمية يحذر سياسيون عراقيون من التغيير الديموغرافي الذي حصل بعد سقوط ثلث مساحة العراق بأيدي تنظيم "داعش" على اعتبار أنها خطوة نحو تقسيم البلاد إلى "ثلاث دول طائفية" ونحو إنهاء التعايش السلمي بين المكونات العراقية، ولم يكن التغيير الديموغرافي وليد اللحظة، بل امتداداً للتغيير في التركيبة السكانية التي حصلت خلال اندلاع ما سمي "الحرب الطائفية" عام 2005، ولكن بعد احتلال "داعش" أصبحت هذه المناطق تسكنها طائفة واحدة. ففي ديالى التي تمثل خليطاً متجانساً لجميع مكونات الشعب العراقي، ولكنها شهدت بعد احتلال داعش لمناطق منها تغييراً ديموغرافياً من قبل جهات خارجية، لأنها تتمتع بموقع جيوسياسي متميز وذي تأثير كبير نتيجة إحاطتها بكل من إيران وبغداد وإقليم كردستان، فبعد تحرير بعض المناطق من سيطرة داعش مثل جلولاء والسعدية، رفضت القوات الكردية إعادة سكانها الأصليين بحجة أن الطرق والمنازل مفخخة. ولأول مرة نرى في العراق مناطق أصبحت من طيف واحد ومناطق أخرى أصبحت من الطيف الأخر، وكأننا نعيش في عصر لا يمت للحداثة بصلة، ومن المؤسف إن نجد في عصر العلم والحداثة والتطور انكفاء المجتمع العراقي الذي كان احد النماذج الحقيقية للتعايش والسلم الأهلي، وكان العراق من أوائل المجتمعات المتحضرة في منطقة الشرق الأوسط، وكان يضم مسلمين ويهودا ومسيحيين وصابئة وايزيديين وعرب وأكرادا وتركمان وهلم جرا، وقد يكون صحيحا انه كانت تحدث مشكلات بين فترة وأخرى إلا إن الصحيح أيضا هو إن نمط التعايش وقبول الأخر هو السائد، وكانت ابرز مشكلة هي المسألة الكردية التي واكبت جميع نظم الحكم المختلفة في العراق منذ التأسيس لغاية ألان. إن هذا التغيير بالغ الخطورة لأنه يهدف إلى زرع الفتنة الطائفية والكراهية بين مكونات المحافظة، وهو قد يقود المحافظة إلى أكثر من صراع لتغيير هويتها، وهذا لا يستبعد إن هناك مؤامرة دولية وإقليمية لتمزيق النسيج العراقي واللحمة الوطنية، تنفذها بعض الأجندات العربية وإسرائيل وأمريكا، خاصة وأن التغيير الديموغرافي هو تنفيذ لمشروع نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يهدف إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول طائفية. ففي موازاة الحرب على تنظيم داعش الإرهابي في العراق، تتصاعد وتيرة المخاوف من تغييرات ديموغرافية محتملة ناتجة من عمليات النزوح والتهجير، ستكون تداعياتها، سياسياً، طرح مشاريع تقسيمية، وأن التغيير الديموغرافي بداية لتقسيم العراق على أساس طائفي، فعلى الرغم من إن التغيير الديموغرافي الذي حصل أخيراً في بعض المناطق، حدث بسبب الحرب على تنظيم داعش، إلا إن بعض الأطراف في العراق استغلت هذا الأمر وتمددت بشكل كبير من أجل تقسيم العراق على أساس طائفي وقومي، وأن ضعف القدرة السياسية لبعض المسؤولين العراقيين أدى إلى حدوث التغيير الديموغرافي، والذي سيؤدي إلى كارثة كبيرة في البلاد تصل إلى الناس البسطاء الذين فقدوا منازلهم بالقوة، فعلى سبيل المثال إن محافظة كركوك شهدت زيادة في القومية الكردية خلال عام واحد، وهذا مؤشر خطير يؤكد أن كركوك ستفرغ من العرب والتركمان والطوائف الصغيرة وان أساس التغيير الديموغرافي. أن نزوح المكونات المسيحية والشبكية والأيزيدية والتركمانية من مناطقهم في الموصل مثلا كفيل بتغيير ديموغرافية مناطقهم التي ستقود مباشرة لتغيير جغرافية بعض المناطق، خاصة التي تقع ضمن المناطق المتنازع عليها حسب المادة 140 من الدستور، إن فشل كل محاولات الإقليم قبل 10/6/2014، في ضم بعض المناطق في سهل نينوى له بسبب وجود مكونات تعارض التصويت لصالح الانفصال عن نينوى، هو ما لم يعد موجودا حاليا، وذلك بسبب عمليات التهجير والتغيير الديموغرافي في تلك المناطق. لقد دعم بعض السياسيين الداعين إلى الانفصال التغيير في التركيبة السكانية ، لأن بعض المحافظات أصبحت تضم لوناً واحداً من الطيف العراقي مثل الأنبار والموصل، ويوضح هذا أن التعايش بين المكونات العراقية أصبح ينكسر لصالح أجندات وأفكار تدعو إلى التقسيم وإلى نبذ الآخر والدفاع عن المكون وليس الوطن، ويعتبر الأكراد أكثر "القوميات" استفادة من التغيير الديموغرافي، بعدما وضعوا أيديهم على العديد من المناطق في محافظات صلاح الدين وديالى ونينوى، إضافة إلى سيطرتهم الكاملة على محافظة كركوك بعد العاشر من حزيران الماضي، وهي قد تكون أمور تمهيدية لإعلان "الدولة الكردية"، يضاف إلى ذلك إن بعضا من رجال الدين في العراق بدلا من إن يكونوا بمثابة عامل أساسي لتعزيز التعايش السلمي، أضحوا هم نجوم الفتنة واحد عوامل العنف المجتمعي الأساسية، ومما زاد الأمر تعقيدا سعي رجل الدين إلى احتلال الوظيفة السياسية دونما إلمام حقيقي بقواعدها، أو صيغ البناء السياسية للدولة الحديثة، أو القضايا التي تواجه الدولة في بيئة سياسية داخلية وإقليمية ودولية مركبة ومعقدة، وهو ما انعكس واقعا على المنتظم السياسي، بمدخلاته ومخرجاته والتغذية العكسية، وهذا ما تجلى في نواح عدة لعل من أهمها الدستور الكسيح الذي أضحى عامل نزاع بدلا من إن يكون مرجعا لحل النزعات، أي انه أصبح جزءا من المشكلة بدلا إن يكون هو مفتاحا لمعضلات شتى، فضلا عن نواح أخرى من المشاكل. ومع هذه التحديات واحتمالية فشل السلطة والنخب السياسية في ضمان التعايش السلمي، فان الأمر منوط بحراك اجتماعي لتعزيز السلم الأهلي والأمن المجتمعي، هذا الحراك ينبغي إن لا يستبعد أحدا حتى البنى التقليدية وفي مقدمتها العشائر التي ساهمت فعلا في إخماد الفتنة من خلال امتداداتها المتنوعة، ومن المفارقة القول إن السلطة العشائرية أكثر رحمة من التطرف الديني، وعلى منظمات المجتمع المدني الذي نمتلك أرقاما خيالية لإعداد مؤسساته داخل العراق إن يكون فاعلا حقيقيا في صناعة بيئة صالحة للتعايش السلمي، بدلا من إن يكون كثرة بلا فعل، نحن فعلا بحاجة إلى الحفاظ على اشتراطات السلم الأهلي لان البديل المقابل بحر من الدماء لن يكون فيه احد رابح حتى الذين يدعون أنهم يدافعون عن طوائفهم ومبشرو أوهام النصر وأعداء العراق وهم كثر. وأخيرا يجب أن نقف وبحزم بوجه جميع عمليات التغيير الديموغرافي، لا سيما تلك التي تطال سهل نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك، وإلزام الحكومة المركزية والحكومات المحلية في المحافظات للالتزام بالدستور واتخاذ مواقف جدية وصريحة تجاهها وسن قوانين فاعلة تحد منها ومن آثارها السلبية، فضلاً عن حثها لرفع كافة التجاوزات التي طالت أملاك المهجرين.
التعليقات