هو حلم راود عقل المجدد الشيرازي مرارا وتكرارا، سعى سماحته الى تحقيقه عبر مبدأ التعايش، ومبدأ السلم الاهلي او السلم العالمي ، الذي هو اتفاق صريح او ضمني بين شخصين او مجموعتين او حزبين او دولتين على عدم اللجوء الى الحرب ـ ساخنه او باردة – لتجنب الصدام بينهما تحقيقا لمصلحة عليا تهم الطرفين ، ويبقون كذلك حتى وان كان بينهم اختلاف في الايديولوجيا او النظام الاجتماعي ، بحيث لا يسبب او يتسبب ذلك الاختلاف في اندلاع الحرب بينهما .
تأتي الاسرة العالمية الواحدة كفكرة مثالية لدى البعض ووسط عالم مليء بالصراعات والتناقضات التي انتهت بخًلق التناقضات والجماعات والاشخاص والدول المتناحرة ، نجد انه لابد من التعايش ،ولابد من السلم العالمي ، ولا بد من تنفيذ برامج اصلاحية شاملة لتحقيق السلم العالمي .
يوجه سماحته بالعودة الى فكرنا الأصيل وديننا القائم على المحبة والرحمة والتسامح والمساواة ، وهذه الرباعية مبادئ اساسية لتحقيق حلم " الاسرة العالمية الواحدة" فكلمة الاسلام متأتية من التعايش والسلم والامن والامان ... التي تعني التعايش المثالي الذي ينتهي عند مرحلة تحقيق السلم والامن الاجتماعي ، فهذا الدين العظيم يؤسس ويجذر لمنظومة متكاملة الاركان تؤسس للأمن المجتمعي ، كما وتؤصل وتمهد وتحقق التعايش السلمي بين الامم ، فالمنظومة القرآنية تؤكد ان اصل الاختلاف افراداً وشعوبا وقبائل او جماعات انما كان للتعارف والتعايش ، واذا ما تم تطبيق هذا الاصل القرآني ، فان البشرية ستشهد التقدم نحو مراحل مهمة في البناء النفسي الفردي والاسري والمجتمعي والدولي الممهد لبلورة مبدأ الانسانية الموسوم في مصنفاته " الاسرة العالمية الواحدة" ، مبدأ التعايش والسلم الذي كثيرا ما ورد في مصنفات المجدد الراحل يخلق معادلة متوازنة وحيوية بين مفهومي (الاختلاف والمساواة) ،لان التعايش وفق نظرية الامام الشيرازي تعني قبول التعايش والسلم بين الشعوب والمجتمعات والافراد وغيرها من الجماعات المتناقضة ، رغم وجود الاختلافات الأيديولوجية ، ورغم وجود او ظهور الاختلافات في النظام الاجتماعي ، او النظام الاقتصادي ، وبمعنى أدق تقديم المشتركات بين الثقافات والشعوب على الاختلافات والتناقضات التي من شانها ان تمهد الطريق للتصادم والتقاتل والتناحر مع الآخر ...فردا او مجموعة او انظمة سياسية او احزاب او جماعات او ثقافات .
ديننا الحنيف دين الانسانية الهادفة الى توحيد البشرية جمعاء تحت راية الانسان ، ومن هذا المنطلق يرى المجدد الشيرازي : ان من الضرورات القصوى لتحقيق التعايش هو الانطلاق من الذات ، ونظرة الانسان لنفسه ، ويقول سماحته : انه اذا نجح الانسان في تحقيق حالة التعايش مع ذاته نجح حينذاك في تهيئة ذاته للقبول بالآخر ، وذلك يتأتى من خلال معادلة قائمة على نظرته الايجابية او السلبية لنفسه ، فاذا كانت نظرته لذاته "ايجابية مطلقة" يقيم الاخر تقييما ايجابيا وينتهي هذا التقييم بالقبول والتعايش مع الاخر ، لأنها تجعله ينظر الى الآخر نظرة ايجابية ، اما اذا كانت نظرته لذاته سلبية مطلقة فانه سوف يقيم الآخر تقييما سلبيا وبالتالي يرفض قبوله او التعايش معه ...لانه يتخذ موقفا سلبيا منه فيرفضه ويرفض التعايش معه ابتداءا ، فالمتعثر في التعايش مع ذاته لا يتمكن من ان يكون عنصراً مؤثراً في عملية التعايش على المستوى الشخصي والاجتماعي ، لان من اهم أساسيات واستراتيجيات التعايش ، هو التوازن والاعتدال في الفكر والثقافة والمعرفة الشخصية ، لان الفكر والثقافة والمعرفة يؤسس للاعتدال في قراءة المسائل والقضايا والاحداث والتصورات المحيطة بنا ، فاذا لم تكن شخصية الانسان معتدلة ضعفت واضمحلت قدرته على قبول الآخر ، وبهذا يكون اول اساس من أساسيات التعايش في فكر المجدد الشيرازي هو النظرة الى الذات ومنها تمتد ثقافة التعايش لتؤثر على المجتمع العام.
أصل هذا الرأي يحيله سماحة السيد المجدد الى الأصل الانساني الواحد الذي منشأه الذات ، فصلاح الاصل يعني صلاح الفروع الاخرى ، والكل مخلوق من النفس الواحدة ، فالإنسانية تجعل من البشرية اسرة واحدة ، لان الاصل الانساني واحد ، والجميع كرمهم الله دون تخصيص ، وما التنوع الا شكلا من اشكال الاعجاز العلمي ، فالتعددية من آياته ومعيار التفاضل في هذه التعددية " التقوى" ويعتبر التقوى والرحمة من اولى عناصر تكوين الاسرة العالمية الواحدة ، شريطة ان يكون مبدأ التعددية ، وقبول الرأي الاخر ، او الفكر الآخر ، واردا ومتاحا فلا يجوز التجانس القهري في ذلك ، كما لا يجوز الخلاف حاضرا في اي قضية من القضايا التي يختلف عليها اصحاب الايديولوجيات المتناقضة ، وهذا يعني ان سماحته يبرمج لتنفيذ اربع محاور ايدولوجية ومعرفية تجعل من التعايش أداة ايجابية تخدم الاسرة البشرية الواحدة وهذا ما يوجهنا به الدين الاسلامي ، لان من اساسيات بناء الدولة المهدوية المرتقبة ان يكون العالم منسجما شبه خاليا من التناقضات والصراعات والتناحرات .
المحاور الاربعة المتسلسلة والمتتابعة التي يضعها المجدد الشيرازي هي كالاتي ، اولا تغيير النظرة الى الذات وتحويلها والعمل عليها لتصبح ايجابية ، وهذا سيدفعنا لتنفيذ محور آخر مهم وجوهري جدا وهو النظرة الى الاخر ، والمحور الثالث المتمثل بـ" قبول التعددية واحترام الاختلاف " سوف يتحقق بناء على الانسان الذي يحترم وجود الآخر وينظر له نظرة ايجابية باحثا في علاقته معه على مشتركات توافقية من خلال النظرة الايجابية له ، وليس اختلافات تقود الى التناحر والصراع معه ، والمحور الرابع يسميه المجدد الشيرازي " زراعة متطلبات الاسرة العالمية في النفس البشرية " واحيانا يسميها سماحته متطلبات التعايش والتي من اهمها :
- معالجة الانانية ونفي الغرور والتعصب .
- رفض تحجيم فكر الآخر.
- تأصيل وحدة الجنس البشري " أنسنة الافكار والاختلافات".
- رفض التجانس القهري تحت أي ظرف كان .
- التسامح وقبول الآخر مهما كان دينه او معتقده الفكري او السياسي .
- السماح للمُختلًف معه ممارسة قوانينه وطرح افكاره حتى وان كان ضمن المجتمع الاسلامي او الحكومة الاسلامية التي تختلف معه ، ويرى سماحته ان قاعدة الامضاء تشرع لذلك .
- مراعاة القسط – العدل – الانصاف – العفو – الصفح – احقاق الحق – نفي الظلم –حسن الظن ، ويجب ان يتم ذلك على المستوى الفردي والاجتماعي .
مما تقدم نستخلص ان التعايش والسلم الاهلي المحلي والدولي : احد اهم استراتيجيات بناء وتكوين الاسرة العالمية في فكر المجدد الشيرازي ، وفي تصوره قدس سره ان للأسرة الدولية او العالمية محطات اصلاحية اهمها : الفرد – والآخر- المجتمع – الدولة او النظام القائم – الدول او الانظمة القائمة ....اذا ما تغيرت معرفة وافكار الجميع فسوف يتحقق الحلم الذي كان يحلم به سماحته وعمل على تنفيذه تمهيدا للسلم العالمي الذي فشلت اليوم كل القوى العالمية في رسم ملامح هذا السلم العالمي او التعايش العالمي ، وفي المقابل يضع الدين الاسلامي الحنيف استراتيجيات مؤكدة لتحقيق الاسرة العالمية المرتقبة القائمة بوجودها ومنظومتها على مبدأ التعايش والسلم الدولي .