يبدو بأن سياسة تأجيل الأزمات التي اعتادت عليها العملية السياسية العراقية بعد العام 2003، قد انفجرت من جديد، فأزمة تنظيم "داعش" وروايته الاسطورية ورهاناته الاستراتيجية على تفكيك البنية الاجتماعية وتقويض الوحدة العراقية والحديث عن شرق أوسطي جديد، قصة شارفت على الانتهاء، لتأتي أزمة شمال العراق مع نهاية أزمة التنظيم الإرهابي؛ لتربك بذلك الحسابات الداخلية للحكومة العراقية وتهدد من جديد واقع النسيج العراقي. فاستفتاء إقليم كردستان الذي تم اجراءه في 25ايلول/ سبتمبر من الشهر الماضي وضع الحكومة العراقية وصانع القرار العراقي إمام خيارات معقدة في التعامل مع الأزمة الكردية، وبموازاة ذلك ترى أربيل بأن الاستفتاء ونتائجه الانتخابية قد أعطاها دفعة قوية ومساحة تفاوضية أكبر للتفاوض مع الحكومة المركزية. وبين خيارات الحكومة المركزية ومواقف أربيل، يبقى السؤال مطروحاً حول طرق حل الأزمة الكردية من قبل السلطة المركزية، وما هي الخيارات الاستراتيجية التي ستسلكها بغداد في التعامل مع أزمة الإقليم والتخلص من مرض الانفصال؟
أولاً: الرهان على الوقت وتمديد عمر الأزمة
على الرغم من أن توقيت الاستفتاء جاء في وقت تحاول فيه الحكومة العراقية الخروج من أزمة تنظيم "داعش" ودفع عجلتها الاقتصادية "التي تعطلت كثيراً" بسبب الأزمة المالية وانخفاض اسعار النفط والحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، إلى الإمام، إلا أن موقف الحكومة العراقية يبدو أقوى من أي وقتاً مضى، لاسيما مع الانتصار الكبير الذي حققته على تنظيم "داعش" وكسبها للثقة الدولية والإقليمية، فضلاً عن رصانة موقفها الداخلي الرافض للانفصال. ولعل هذا الموقف اعطى للحكومة المركزية مساحة واسعة للتعامل مع الأزمة الكردية، فالحكومة العراقية من الممكن أن تراهن على الوقت في أزمتها مع إقليم كردستان وتضع استراتيجية كسب الوقت كواحدة من استراتيجيات التفاوض مع الإقليم؛ لأن الوقت حتماً سيكون لصالح الحكومة المركزية، لاسيما مع الاجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية والدول الإقليمية "تركيا وإيران" بعد الاستفتاء، وبالتالي فأن اطالة عمر الأزمة سيضع أربيل تحت طائلة الضغوط الداخلية والدولية وسيعرض نشاطها الداخلي وإدارة مواردها إلى خطر كبير، وسيجعلها عرضة للاحتجاجات الشعبية الداخلية، التي ستصب في الاخير إلى جانب الحكومة المركزية، ولهذا ريما يكون عامل الوقت احد الخيارات السياسية التي ستراهن عليها الحكومة العراقية في إدارة أزمتها مع الإقليم.
ثانياً: الرهان على الاجراءات الداخلية والإقليمية
بجانب استراتيجية كسب الوقت المطروحة إمام صانع القرار العراقي، يمكن ان يعتمد الأخير على أجراءاته الداخلية تماشياً مع الاجراءات الإقليمية التي اتخذتها تركيا وإيران، لاسيما مع التنسيق السياسي والاقتصادي المتوقع بين الحكومة العراقية والدول المجاورة لإقليم كردستان، فضلاً عن التنسيق العسكري الثلاثي الذي تم الاتفاق عليه بين بغداد وأنقره وطهران؛ وذلك من أجل اتخاذ كافة التدابير العسكرية المشتركة التي من شأنها أن تخضع سلطات الإقليم لسياسات الحكومة المركزية في حال أصرت القيادة الكردية على المضي بنتائج الاستفتاء. هذا الخيار من الممكن أن يتخذ من خطوات المقاطعة السياسية ووقف التعاملات الاقتصادية بين الحكومة المركزية وأربيل من جهة وبين أربيل ودول الجوار من جهة أخرى، عامل ضغط قوي وفعال؛ لأن غلق المنافذ الحدودية وقطع العلاقات السياسية والتجارية ووقف تصدير النفط من قبل الدول المجاورة لإقليم كردستان، ستخضع القيادة الكردية إلى سياسة الأمر الواقع. وهذا بدوره سيعطي للحكومة العراقية مساحة تفاوضية أكبر مقارنة بالخيارات الضيقة والمحدودة لصانع القرار الكردي. فالأخير أصبح في وضع سياسي داخلي محرج ولا يمكنه مجاراة الخطوات التصعيدية التي اتخذتها الدول الإقليمية والحكومة العراقية، والتي من المؤمل أن يرتفع سقفها بمرور الوقت، حتى وأن الغيت نتائج الاستفتاء؛ لأن الموقف الإقليمي أصبح مدركاً لنوايا الكرد الانفصالية، وبالتالي سيعمل على اتخاذ خطوات احترازية لتقويض أي فكرة من شأنها أن تشجع اكراد العراق على الانفصال عن بغداد في المستقبل البعيد.
ثالثاً: فتح باب الحوار مع أربيل
بغض النظر عن الخيارات اعلاه، فأن خيار الحوار بين بغداد وأربيل سيبقى مفتوحاً، على الرغم من التأجيل المقصود من قبل الحكومة العراقية في الوقت الحالي. فالإقليم هو المتضرر الوحيد من عملية أطالة عمر الأزمة وغلق باب الحوار بين بغداد وأربيل. وعلى الرغم من أن القيادة الكردية قد اعلنت عن استعدادها لفتح باب الحوار بين الجانبين دون شروط مسبقة، إلا أن الحكومة العراقية يفترض أن تصر على موقفها الرافض للاستفاء وأن تضع إلغاء الاستفتاء ونتائجه الانتخابية شرط أساس في الدخول إلى المفاوضات المباشرة، ويجب أن تكون العاصمة بغداد مقراً رئيساً للتفاوض وألا تتجاوز المفاوضات النظام السياسي العراقي بما يكفله الدستور والقانون العراقي الاتحادي. ويجب أن يكون إلغاء الاستفتاء وعدم الاعتراف بنتائجه الانتخابية والحفاظ على وحدة العراق ارضاً وشعباً القاسم المشترك بين كل الخيارات المطروحة والقاعدة الاساسية التي تستند عليها الحوارات المباشر بين المركز والإقليم، لاسيما وأن المساحة التفاوضية التي تملكها بغداد واسعة جداً، وبالتالي من الممكن أن تعيد تنظيم العلاقة بين المركز والإقليم وفق الدستور العراقي وباتجاه تعزيز الفيدرالية بالنسبة للإقليم مقابل الخضوع لسياسات وقرارات السلطة المركزية بعيداً عن سياسة الهروب إلى الإمام وتأجيل الأزمات وافتعالها في وقتً لاحق. فهل يستثمر صانع القرار العراقي نقاط قوته هذه المرة أم ستكون سياسة الاتفاقات والاجتهادات الشخصية وتأجيل الأزمات حاضرة في حل الأزمة الكردية؟