الأعلام بين المهنية والوطنية

تتقارب الأيام والساعات والدقائق شيئا فشيئا إلى اللحظة الحاسمة التي يدق فيها الجرس الذي ينبئ بنهاية فترة رئاسة (بوش) التي استمرت لثمان سنوات واتسمت بأحداث مهمّة وجمّة يقلّ مثيلها في التأريخ الأمريكي بل في العالم أجمع. وها هو الرئيس المنتهية ولايته يراجع هذه الأيام في قرارة نفسه ذكرياته وتجربياته وما مرّ على العالم من جرّاء سياساته. ويكلّم في ذلك أحياناً الصحف والقنوات التي تجري معه حوارات ولقاءات. ولا يقف بوش على هذا فحسب بل يقوم هذه الأيام بالسير في الأمصار والبلدان ويزور المناطق التي كانت مرما رئيسيا لأهدافه ونواياه والتي جعلها ساحات لمقارعة الإرهاب. فقد زار العراق وأفغانستان علّه يودّع من جهة المنطقتين الّلتين خاض فيهما حربين هزّتا العالم أجمع ومن جهة أخرى لكي يرى مدى نجاح ما فعلته سياساته وما طبّق منها على أرض الواقع، وقد تعرض أثناء زيارته إلى العراق إلى ذلك الحدث الذي قام من خلاله أحد الصحفيين برشقه بحذائه. هنا يجب التنويه على عدة نقاط: أولاً: لا يخفى أن عملا كهذا يتنافى مع القيم الأخلاقية والمبادئ الإسلامية وحتى العربية إذ أن الضيف ومهما اختلفنا معه يجب أن يكرم ويحترم في كل الأحوال. ناهيك عن أنّ هذا الفعل يعد من الناحية القانونية جريمة يعاقب عليها بالسجن. هذا من جهة ومن جهة أخرى وما يزيد الطين بلّه أن هذا العمل يصدر ممّن يمتهن الصحافة وحريّ بالصحافيين والإعلاميين الّذين يتحلّون بسلاحي القلم والبيان والمنطق وما أعظمهم. حريّ بهم أن يتنزّهوا ويبتعدوا كل البعد عن مثل هذه الممارسات التي لا تليق بهم. إذ أن القلم والبيان هما أنجع وأنفع سلاح وذريعة لإيصال رسالة كل إنسان ذي ضمير يقض وحيّ وسيبقى صوت وأثر هذين السلاحين يدوّي دوما للبشرية وعلى مدى العصور والدهور. ثانياً: يلاحظ من نحو هذه القضية كم هو البون الشاسع بين ما يقال وبين ما هو موجود على أرض الواقع. فحينما يعبّر عن بوش بأنه (صديق عظيم للشعب العراقي) يواجه نحو هذه الحادثة التي ما كان يتوقّها أبداً، فيجدر بالجميع أن يكونوا واقعيين وأن لا يخدعوا أنفسهم. فما قام به منتظر الزيدي بالتأكيد ليس تصرّفا شخصيّا فحسب. فهذا الفعل (وان كان أسلوبه خاطئا) يعبر عن ما يكنّه غالبية الشعب العراقي من الغضب والاستياء نحو سياسات الولايات المتّحدة الأمريكية التي تتحمل مسئولية كبيرة اتجاه الويلات التي حلت بالعراق لاسيّما منذ العام 2003 إلى يومنا هذا. ثالثاً: إن الحكومة الأمريكية وشخص بوش لم يقدّموا أي شكوى ضد منتظر الزيدي ولكن بما أن ما فعله الأخير يقع تحت طائلة الجرائم التي يمكن للادعاء العام تحريكها ضده نيابة عن الحقّ العام وان لم تكن ثمّة شكوى شخصية. فعليه الخيار كلّه متروك للقضاء العراقي إن يقرّر في مصير هذه القضية. ولكن بما إن العراق الجديد طوى صفحة من تأريخه وهو يرتقي سلالم الديمقراطية والحرية فيجدر بالحكومة العراقيّة أن تبادر بمبادرة خيّرة وأن تقوم تكريماً وتقديساً لمكانة الصحافة والأعلام والإعلاميين ولكي تظهر مدى احترامها لحريّة البيان والتعبير وكي تسير هذه الحريّة في مسارها الصحيح ولا تأخذ بعد ذلك أشكالا خاطئة وغير حضارية أن تقوم الحكومة العراقية لأجل ذلك كلّه بإصدار العفو عن الزيدي وإطلاق سراحه، ويجدر بكل مسؤول أن لا ينسى ما قاله أمير المؤمنين الأمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (سعة الصدر الة الرئاسة)(1) فتثبت الحكومة العراقية باعتبارها تمثّل الشعب العراقي بذلك أنها حقّا صالحة وتمتلك سعة ورحابة الصدر وروحاً كبيراً وإنها قد أخذت دروسا وتجارب وعبر من هذه الحادثة لا أن ينفرد بهذه الروحية من السماح والتغاضي والاعتبار الرئيس الأمريكي الّذي يبدو أنه قد أدرك ووعى مغزى رسالة الزيدي وأتّضح له كم هي المسافة الشاسعة بين ما يقال في الأعلام وبين ما هو موجود على أرض الواقع.
التعليقات