شهدت الساحة العراقية في الآونة الأخيرة جدلاً سياسياً وفكرياً واسعاً حول الاتفاقية الأمنية العراقية – الأمريكية المزمع إبرامها بين الطرفين هذا العام، ذلك الجدل انصب حول مدى المخاطر المحتملة التي يمكن أن تترتب على عقد هكذا اتفاقية على الأصعدة السياسية والاقتصادية وخاصة الأمنية منها نظراً للمبادئ والأهداف التي تضمنتها، وتمسك الولايات المتحدة الأميركية بها وعدم التنازل عنها.
لقد جاء في ديباجة الاتفاقية التي حملت عنوان (إعلان مبادئ من أجل علاقة تعاون وصداقة طويلة الأمد بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأمريكية)، إن الطرفين أي العراق والولايات المتحدة الأمريكية يدركان بصورة مشتركة ضرورة تعزيز جهودهما من أجل المحافظة على السلام والأمن في العراق، وفي كافة أنحاء المنطقة، وإذ يدركان إن القدرة القوية للدفاع عن النفس مقرونة باحترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، من شأنها تعزيز السلام والاستقرار في العراق.
إن المتتبع لبنود هذه الاتفاقية يجد إنها نصت على احترام سيادة كل طرف فيها وعدم التدخل في شؤونه الداخلية ، إلا إن الواقع يشير إلى إن هذه الاتفاقية وخاصة الجوانب الأمنية منها تُعد تدخلاً سافراً في شؤون العراق الداخلية، نظراً لوصاية القوات الأمريكية المحتلة على العراق، وإطلاق يدها في كل شبر من أرضه، وعدم خضوع القوات الأمريكية والمتعاونين معها إلى القانون العراقي الداخلي.
ولا شك إن الولايات المتحدة الأمريكية لديها مصالح سياسية وعسكرية إستراتيجية في العراق لا يمكن إن تغفلها الإدارة الأمريكية، ولكن عند مقارنة تجارب بناء الدول من خلال الولايات المتحدة الأمريكية نجد إن الاتفاقيات التي عقدتها الولايات المتحدة الأمريكية مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية كانت في وقتها الدولتان (ألمانيا واليابان) مهزومتان وخاضعتان للاحتلال الأمريكي، وللوهلة الأولى نجد تشابهاً بين حالة العراق بعد دخول القوات الأمريكية لأراضيه عام 2003 وبين حالة كل من اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، إذ دخلت القوات الأمريكية أراضي هذه الدول دون إذن مسبق من حكوماتها، ولكن الحالة العراقية تختلف بالكامل عن حالات الدول الثلاث، ففيما يتعلق بالحالة الألمانية واليابانية فإن القوات الأمريكية احتلتها بعدما هاجمتها الولايات المتحدة، واحتلتا الكثير من دول العالم إبان الحرب العالمية الثانية، وهو أمر لم يكن موجوداُ عند احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
كما لا تشبه الحالة العراقية الحالة الكورية، لأن القوات الأمريكية دخلت أراضي كوريا الجنوبية عام 1951 بتفويض دولي من خلال قرار مجلس الأمن رقم (83) الصادر في 27 حزيران 1950، بعدما تعرضت أراضي كوريا الجنوبية لهجوم من قبل كوريا الشمالية، بينما الحالة العراقية لم تلق تفويضاً دولياً لدخول القوات الأجنبية لهذا البلد.
ولايعد احتلال العراق تحريراً- كما وصفته الادارة الامريكية - لأن التحرير هو نقيض الاحتلال، ومن المعلوم إن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اعترفتا رسمياً حسب قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1483) بوضعهما القانوني في العراق كقوات احتلال، والاحتلال لا يمكن أن يكون حملة لنشر الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط، لأن الحرية والديمقراطية لا تنشر عن طريق الاحتلال والتعذيب والقتل اليومي.
وعليه فإن الاحتلال الانكلو –أمريكية للعراق لم يكن من أجل الحرية والديمقراطية، وإنما كان عملاً مخططاً له منذ زمن بعيد للاستيلاء على ثروات العراق وفرض الهيمنة الأجنبية على شعبه، وكذلك استجابة لضغوط كانت تتعرض لها الإدارة الأميركية من قبل بعض جماعات الضغط المتنفذة داخل الولايات المتحدة، ولان قضية الوجود العسكري الأمريكي في العراق وكذلك إنشاء قواعد عسكرية دائمة أصبحت موضوع اهتمام العديد من القيادات السياسية والحركات والأحزاب الدينية والوطنية داخل العراق، فضلاً عن الاهتمام الذي لقيته على الصعيد الخارجي، حيث مارست العديد من القوى الدولية، والرأي العام العالمي ضغوطاً من أجل خروج القوات الأمريكية من العراق، فقد وجدت الولايات المتحدة في عقد اتفاقية متكاملة الجوانب مع العراق (اقتصادية وسياسية وعسكرية) المخرج الوحيد لها من الأصوات الداعية إلى خروج قواتها من العراق.
ومهما تكن المبررات لهذه الاتفاقية يمكن القول إنها تهدف إلى تحويل الوجود العسكري الأمريكي إلى وجود قانوني مشروع تحت ستار اتفاقيات الصداقة والتعاون، أي إن وجود القوات الأجنبية في العراق سيكون استناداً إلى اتفاق ثنائي بين بلدين مستقلين يتمتعان بالسيادة كما تروج الولايات المتحدة لذلك، في حين نجد إن الاتفاقية سوف تجعل من العراق دولة ناقصة السيادة خاصة من خلال البند الذي ينص على حصانة القوات الأمريكية والمتعاقدين معها من ملاحقة القضاء والمحاكم العراقية، لأن مفهوم السيادة يتحدد بمدى قدرة حكومة البلاد على تطبيق القانون على الجميع داخل البلاد، وإن وجود هذا الشرط أي حصانة القوات الأمريكية من المثول أما القضاء العراقي لا يختلف عن الأمر رقم (17) الذي أصدره الحاكم المدني للعراق بول بريمر زمن الاحتلال، والذي ينص على منح القوات الأجنبية والمتعاقدين المدنيين الحصانة القضائية والقانونية داخل العراق.
استناداً إلى ما تقدم نجد إن الاتفاقية المزمع توقيعها لا تتعدى أن تكون تغيراً في العناوين، من قرار أممي إلى اتفاقية ثنائية، مع بقاء منظومة الاحتلال قائمة في العراق ولسنين قادمة. فحسب صحيفة الغارديان البريطانية التي نشرت في منتصف نيسان 2008 ما قالت أنه مسودة للاتفاقية التي يتفاوض بشأنها الجانبان العراقي والأمريكي، فإن المسودة تطرح تصوراً لوجود عسكري أمريكي غير محدد الحجم في العراق لمدة زمنية لا سقف لها (بالرغم من استخدام المسودة كلمة وجود مؤقت)، ولا تحدد المسودة ما إذا كان الوجود العسكري سيقتصر على عدد مخصص من القواعد، كما لا توضح طبيعة تسليح القوات الأمريكية، وما إ‘ذا كانت هذه القوات ستخضع لسلطة القانون العراقي، أو أي قانون آخر، في حين تعطي مسودة الاتفاقية القوات الأمريكية حق تسيير الدوريات العسكرية، أي حق الاشتباك مع عراقيين، واعتقالهم في أي وقت تشاء، الأمر الذي يعني إن الاتفاقية بهذه الشروط ما هي إلا وسيلة أخرى لاستمرار الوضع الحالي ولكن بصيغة قانونية جديدة.
وخلاصة القول، فإنه مهما اختلف العراقيون في تسمية القوات الأمريكية عند دخولها العراق واحتلالها له في عام 2003 سواء كانت قوات صديقة أو قوات محررة، أو حول المبرر لوجود هذه القوات، فإن من الواجب القول بأن النظرة إلى الاتفاقية، وإلى الوجود العسكري الأمريكي في العراق لا يمكن تقبله في الشارع العراقي، وهو أمر يصعب استمرار وجوده. ومن ثم فإن عقد هكذا اتفاقية مع الطرف المحتل ينبغي أن يأتي طبقاً لبرنامج الحكومة العراقية، كانتقال المهام الأمنية إلى القوات العراقية، وأن تكون شفافة واضحة المعالم مع تأطير التعاون في مختلف المجالات بين الجانبين مستقبلاً، فضلاً عن كون هذه الاتفاقية يجب أن تكون علنية وليست سرية، لأن الأمور تصب في النهاية في تقرير مصير شعب بأكمله، مما يستدعي الأمر ضرورة إشراكه في تقرير مصيره ومصير أبناءه، وعليه نجد من الإنصاف والعدالة حاضراً ومستقبلاً أن يتم عرض هكذا اتفاقيات قد ترهن حاضر ومستقبل بلد بأكمله بيد سلطة أو قوة مهيمنة (محتلة)، على استفتاء شعبي علني يشارك فيه الشعب من أجل قول كلمة الفصل فيها، وإن ذلك كله يجب أن يأتي متزامناً مع قدرة المفاوض العراقي بما يخدم المصلحة العراقية أولاً.
اضافةتعليق