الموقف الايراني من التدخل التركي في الموصل: بين التنافس الجيوسياسي وحماية المصالح

شارك الموضوع :

لم تنجح الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2003 من وضع رؤية واضحة وهادفة وهوية محددة لسياساتها الخارجية، كما انها لم تفلح في العمل على مبدأ مهم في تلك السياسة وهو تعدد المحاور والتوازن بينها بما يعطي للعراق مساحة من الاستقلالية النسبية في مواقفها وقراراتها المتعلقة بعدد من الملفات كقضايا المنطقة الخلافية مع معظم الأطراف فيها. خلال الايام الماضية عادت الى الواجهة قضية التدخل التركي في العراق حيث يوجد مايقارب من (2000) جندي تركي في محافظة نينوى وبالتحديد في ناحية بعشيقة بعد عام من الصمت وذلك بعد التصريحات التي ادلى بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان حول الموضوع ورد فعل رئيس الورزاء العراقي حيدر العبادي ومن ثم توالت التصريحات من الجانبين العراقي والتركي وبشكل تصعيدي. ثم ظهرت بعض المواقف الدولية التي لم ترفض التواجد العسكري التركي صراحة كما في الموقف الاميركي الذي اشار الى ان هذا التدخل لم يحصل على موافقة الحكومة العراقية، وهذا يؤشر فتور الموقف الاميركي. وكذلك بعض المواقف المؤيدة ضمنا لهذا التدخل وهي دول الخليج العربي والتي ظهرت في اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي مع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في 13 تشرين الثاني الجاري. بالمقابل - ومايثير الاستغراب - غياب موقف الفاعل الاقليمي الآخر في المنطقة والذي لطالما صرح بالجهود التي يبذلها لمساعدة العراق في تحقيق أمنه واستقراره، وهو الموقف الايراني. وهذا يدفعنا الى وتسليط الضوء على خلفيات هذا الغياب الواضح. هذا الاستغراب يدفعنا للرجوع الى الوراء قليلاً للعلاقات بين ايران وتركيا. على الجانب التركي ومع بدايات الألفية الثالثة بعد تولي حزب العدالة والتنمية لمقاليد الحكم، اتسمت العلاقات الإيرانية - التركية بحالة من التقارب الملحوظ والنوعي، إذ تغيرت الحالة العامة للسياسة الخارجية التركية وكانت حكومة حزب العدالة والتنمية مُتبنية لنهج العلاقات الجيدة مع جميع الدول بلا استثناء. اما على الجانب الايراني، فقد ساهم الموقف الأمريكي والغربي المُعادي لإيران، في جعل الاخيرة تتقرب أكثر لتركيا من ناحية سياسية واقتصادية واجتماعية. وفي ظل العداء والحصار الغربي لإيران، اضطرت الأخيرة إلى إرساء دعائم علاقات جيدة مع تركيا التي كانت تمثل سوق استهلاكي جيد للطاقة الإيرانية، والتي كانت بمثابة الجسر الواصل بين إيران والعالم لنقل البضائع الإيرانية إلى عدة دول حول العالم. كذلك ادرك الطرفان أن الحاجة إلى علاقات اقتصادية قوية لرفع مستوى النمو الاقتصادي الخاص بهما، أضحت العامل الأساس في التقريب بينهما، اذ تم توقيع أكثر من اتفاقية طاقة في هذا الإطار، ودفع التبادل الاقتصادي الوثيق الطرفين إلى إقامة علاقات تعاونية وطيدة. فأيران تزود تركيا بما نسبته (26%) من النفط و(16%) من الغاز الطبيعي فضلا عن العلاقات التجارية بينهما. لكن هذه ليست الصورة الكاملة لمديات العلاقة بين ايران وتركيا. حسب رأي الكثير، لا يمكن إنكار التنافس الجيوسياسي الشديد "الخفي" بين ايران وتركيا على الساحة الأكبر للتنافس وهي الدولة العراقية – قبل ان تدخل سوريا على خط التنافس بعد ماسمي "الثورة السورية" ــ حاولت تركيا دعم السنة وحاولت إيران دعم الشيعة، وبفضل الدعم الإيراني القوي والدعم الأمريكي أيضًا القوي، تمكن الشيعة من اعتلاء سدة الحكم وفرض السيطرة على كافة أرجاء العراق، وكسبت إيران أولى جولاتها فيما يتعلق بالتنافس الجيو سياسي بينها وبين تركيا. كذلك لايغيب عنا موقف كلتا الدولتين من القضية الكردية وهو الهاجس الحاضر دائما بالنسبة لهما. بعد انتهاء حرب الولايات المُتحدة الأمريكية على العراق تم تأسيس إقليم شمال العراق "الكردي المستقل ذاتيا ً"، هذا العامل كان باعث خوف وقلق لكل من إيران التي تعاني من النزاع مع منظمة (بيجاك) الكردية "الإرهابية" وتركيا التي تعاني من النزاع مع منظمة (بي كي كي) الكردية، وهذا ساهم في رفع دوافع الحس القومي لدى المواطنين الأكراد في كلا الدولتين. وفي ظل هذه الاحتمالات والهواجس، تأسس إقليم للاكراد شمال العراق بشكل مستقل وسط معارضة تركيا وايران اللذان دعما فكرة وحدة الأراضي العراقية، ولكن الارادة الأمريكية كانت ذات قبضة أقوى على الساحة، ودعمت فكرة تأسيس الإقليم، فخسرت إيران وتركيا هذه الجولة بشكل متساوي. ويرى المراقبين – ومنهم الاتراك - ان إيران خرجت رابحة بعد فرض سيطرتها على مساحات واسعة في العراق، بينما خرجت تركيا خاسرة فارغة الأيدي. الى جانب العراق دخلت الساحة السورية وبُثت الروح في التنافس الجيو سياسي الإيراني التركي من جديد، ولكن هذه المرة ليس كسابقتها، إذ أظهرت تركيا في الساحة تحرك عسكري نشط بشكل أكبر من خلال دعم قوات المعارضة، وخلال هذه المرحلة يمر التنافس الجيو سياسي بين إيران وتركيا أشد مراحله، إذ ترى إيران من سوريا أرض خصبة لتمددها الجيو ثقافي ومجالا يمكن ان تصل عبره الى حليفها حزب الله، بينما ترى تركيا من سوريا دولة انتفض شعبها بشكل سلمي بقصد نيل حقوقه من النظام المستبد، وهي تستحق الدعم الوفير من أجل تحقيق ما ترنو إليه وشعبها، حتى تحقيق النجاح في ذلك والوصول إلى الهدف المنشود. جاء حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002 بعد انتهاء الحرب الباردة وفق رؤية تحاول نقل تركيا من دولة تلعب دور الجسر بين الشرق والغرب إلى "دولة مركز" ذات تأثير ودور في محيطها يعززان من مكانتها الدولية. وقد عملت تركيا على مدى سنوات طويلة وفق نظريات مهندس سياستها الخارجية، البروفيسور أحمد داود أوغلو، على انتهاج سياسة متعددة المحاور في محاولة لمنحها بعض التوازن وزيادة هامش المناورة والاستقلالية لديها. لذا طوَّرت تركيا في عهد العدالة والتنمية علاقاتها الاقتصادية مع طهران، خاصة الاقتصادية منها، بل وخرجت عن أطر السياسة الخارجية وخرقت الحظر المفروض على إيران وأبرمت معها ومع دول اخرى كالبرازيل اتفاقًا لتصدير اليورانيوم. غير أن عددًا من المتغيرات، في مقدمتها: الانقلاب في مصر، وتعقُّد الأزمة السورية، وتصعيد حزب العمال الكردستاني، وتسارع المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا أدَّى إلى إخفاقات تركية متلاحقة على الصعيد الإقليمي وإلى عزلة عانت منها تركيا، وعمَّق من آثارها التوتر مع حلفائها الغربيين. الأمر الذي دفع بها إلى مراجعات سياستها الخارجية وفق مبدأ "زيادة عدد الأصدقاء وتخفيض عدد الخصوم" مع تولِّي بن علي يلدرم رئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم والحكومة في أيار 2016. وهذا يقتضي تطوير العلاقات مع ايران ودول اقليمية عدة وفق سياسة تعدد المحاور . كما ان صانعي السياسة الخارجية الايرانية يدركون هذا المنحى في السياسة الخارجية التركية لاسيما مع تحركاتها الاخيرة والتقارب التركي الخليجي. وفضلا عن ذلك اصبح معلوما لدى ايران ان العرب لاتتعدى افعالهم الحبر على الورق وهذا ما جعل الصمت يخيم على الموقف الايراني من هذا التقارب. عليه اصبح واضحا – وهو ما يجب ان تنتبه له الحكومة العراقية وصانعي السياسة الخارجية العراقية - ان الفواعل الاقليميين في المنطقة لم ولن ينخرطوا كليا في اطار الصراع الطائفي الذي يخيم عليها، بل يعتمد ذلك على مدى تعزيز او توهين مصالحهم. وبات واضحا ان سياسية تعدد المحاور فاعلة جدا في التوجه التركي فتارة يستخدمه لتعزيز مصالحه وتارة اخرى يدخل في اطار ربح جولات من التنافس الجيوسياسي مع ايران. والاخيرة كذلك تتحرك وتتعامل وفق مصالحها الاستراتيجية مع طبيعة التوجهات التركية والمستجدات الاخرى في المنطقة.
شارك الموضوع :

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية