لم يترك صناع القرار ومسؤولي الدولة التركية مجالا للتوقعات او التحليلات حول اسباب التدخل العسكري في محافظة نينوى عبر التصريحات المتباينة والمفاجئة التي تنم عن موقف تركي واضح ازاء التطورات الامنية والسياسية التي بدأت تظهر مع تكامل الاستعدادات لإطلاق عملية تحرير مدينة الموصل من قبضة داعش الارهابي، وفي ظل تضارب المصالح المحلية والاقليمية بشأنها، والانقسام السياسي الداخلي في العراق. وهذا الاخير تظافر مع تنامي الشعور التركي بتهديد امنها القومي والداخلي مع بدء مرحلة القضاء على داعش في المنطقة -والذي اتخذت بشأنه خطوات عملية على الارض في سوريا في إطار عملية "درع الفرات" -وأصبح مبررا ذا تأثير على الرأي العام في الداخل التركي ليوافق على توجهات الحكومة التركية للتدخل في الملف العراقي.
غياب مشروع الدولة العراقية
بداية تهتم النظم السياسية الهادفة بتعزيز التحصينات الداخلية سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، امنياً، وثقافياً قبل ان ترفض التدخلات الخارجية في شؤونها المختلفة. والسبب في ذلك لان تلك النظم تدرك ان سيادة الدولة تبدأ من الداخل ثم الى الخارج وبالتالي عندما تكون قوية من الداخل فأنها تكون عصية على من اراد الولوج لعناصرها والعبث بها وفقا لمصالحه وأهدافه. والحال لايختلف مع الدول ذات التعدد المكوناتي بل يكون الاهتمام أكثر ويكون الامر أكثر تعقيدا، فكيف الحال إذا كانت الدولة غير مستقرة سياسيا وأمنيا وتعاني من خلل هيكلي في الاقتصاد كما هو العراق؟
بالمحصلة النظام السياسي في العراق وبالتحديد بعد 2003 يعاني من أشكاليات سياسية لازمته منذ وضع اولى لَبناته وعُززت بأداء سياسي فوضوي يفتقد الى الهدف الواضح وتغيب عنه الرؤية الواضحة وبالتالي أصبح النظام بلا هوية في السلوك السياسي لعناصره المتعددة تجاه المتغيرات الداخلية والخارجية. وبمعنى اخر، وعلى الصعيد الواقعي، لم تتوصل (الاحزاب السياسية) في العراق الى اتفاق حول مشروع وطني لبناء الدولة العراقية وتعويض ظلام عقود زمنية عدة. ولهذا يفهم الفاعل الاقليمي ويدرك ذلك جيدا وبذلك يبرر لنفسه التدخل بشتى الصور عاداً البلاد ساحة لتصفية حساباته مع خصومه في البلاد والمحيط الاقليمي لها، مبررا ذلك للرأي العام المحلي والدولي بحماية امنه الداخلي.
عند متابعة تصريحات المسؤولين الاتراك تتجلى الصورة وتتضح أكثر وتكون مصداق لما سبق. وفي هذه المرحلة والتي تُعد الحلقة الاخيرة للصراع مع داعش الارهابي في الموصل، تصاعد الموقف التركي لأن معركة الموصل لها أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا على مستوى سياساتها الداخلية والخارجية لذا وافق المجلس الوطني التركي "البرلمان" بغالبية كبيرة لتمديد مهمة الجيش التركي لمواصلة عملياته العسكرية خارج الحدود في العراق وسوريا لعام إضافي. وبهذا التمديد يستطيع الجيش التركي التحرك والقيام بكافة العمليات العسكرية، حتى نهاية تشرين الأول 2017، خارج حدود بلاده، وخاصةً في العراق وسوريا. وفي هذا السياق أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ان قوات بلاده سيكون لها دور في عملية استعادة مدينة الموصل التي تخضع لسيطرة تنظيم داعش، مشيراً الى أنه لا يمكن لأي جهة منع ذلك. وأضاف الرئيس التركي في افتتاح الدورة التشريعية للعام الحالي، " سنبذل قصارى جهودنا في عملية تحرير الموصل ويجب أن نكون على طاولة الحل ولا يجب أن نكتفي بالمراقبة". ومع ان الموقف الرسمي العراقي عبر عن رفضه للتواجد العسكري التركي في الموصل الا انه لازال بعيدا عن كونه يعبر عن ارادة وطنية متكاملة موحدة الموقف.
تزايد التهديد للامن التركي
مع استكمال الاستعدادات لعملية تحرير الموصل والجهات التي ستشترك في تلك العملية، استشعرت تركيا بظهور تهديد جديد لأمنها القومي يُضاف الى عدوها التقليدي وهو حزب العمال الكردستاني (PKK). فهذا الاخير تنظر أليه تركيا على انه مدعوم من الحكومة العراقية لقتال داعش هذا من جانب، ومن جانب آخر، ترى تركيا ان تواجد حزب العمال الكردستاني (PKK) داخل الاراضي العراقية وعملياته القتالية عبر سلسلة من المواجهات العسكرية التي جرت ولا زالت تجري في المناطق المحيطة والقريبة من قضاء سنجار وداخل ناحية ربيعة الواقعة شمال مدينة الموصل يشكل خطرا كبيرا، لان تواجد الـ(PKK) في هذه المناطق يشكل عمقا أمنيا يهدد الامن الوطني والقومي التركي، كما يعد قتالهم جنبا الى جنب مع مقاتلي الحشد الشعبي حال دخولهم الى قضاء تلعفر الذي يحد ناحية ربيعة، تهديد لابد من مواجهته مسبقا. لا يقتصر الامر على التهديد التقليدي لحزب العمال الكردستاني بل تشكل مشاركة الحشد الشعبي في عملية تحرير الموصل عامل خشية بالنسبة لتركيا. والسبب في ذلك ترى تركيا ان دخول قوات الحشد الشعبي ربما يعمل على تغيير الخارطة الديمغرافية للموصل وبالتالي هناك خشية من تكرار الالاعيب التي حصلت في سوريا كما سماها اوردغان في مدينة الموصل. اذ تؤكد تركيا اعتماد نظام بشار الاسد والفصائل الشيعية التابعة له من خارج سوريا سياسة التهجير القسري عبر إخلاء المدن والبلدات والقرى منذ الشهور الأخيرة لعام 2011 وتم استثمارها في الأعوام التالية لإحداث تغيير ديموغرافي مبرمج، خصوصاً في محيط دمشق وفي حمص، وقد ظهرت معالمها أخيراً في حصارات التجويع والقصف الوحشي في الزبداني والقلمون وداريّا وحي الوعر. ولا ترمي هذه السياسة إلا الى جعل أي حل سياسي مستحيلاً لاستحالة عودة النازحين واستعادتهم بيوتهم وأملاكهم أو الذين أحرقت محالهم التجارية وأُزيلت عقاراتهم، أو حتى عودة "الغائبين" الذين صودرت أملاكهم باعتبارهم "إرهابيين" لذا قال اوردغان " لن نسمح للميليشيات الشيعية وحزب العمال الكوردستاني بالمشاركة في العملية وسنقوم بكل ما يجب لمنع هذه اللعبة". وتابع بالقول " برأينا فإن القوات المحلية والعربية والتركمانية قادرة على تحرير المدينة". ودعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان إلى أن يبقى في مدينة الموصل أهاليها فقط الذين يتكونون من السنة باختلاف عرقياتهم العربية والكوردية والتركمانية. وطالب علي يلدريم رئيس الوزراء التركي على ضرورة عدة العبث بالبنية الديموغرافية لمدينة الموصل بعد تحريرها من تنظيم داعش.
اليوم وجود القوات العسكرية التركية يُزيد الامر تعقيدا في العلاقات بين البلدن الجارين والشريكين التجاريين. وهنا لابد من الاشارة الى ان الجهود الدبلوماسية التي اتخذتها الحكومة العراقية كانت بالاتجاه الصحيح وتحتاج الى تعزيزها بالضغط على الحليف المشترك (الولايات المتحدة الاميركية) ليأخذ دوره في الضغط على الجانب التركي لسحب قواته ولابد من تغيير قناعات الولايات المتحدة حول هذا التواجد والمتمثلة بأمكانية بقاء القوات التركية بدون تحرك على الارض عند بدء المعركة وخلالها. كذلك بالامكان توظيف هذه الازمة لتعزيز الرأي العام العراقي الرافض لهذا التواجد في ترميم الصف الوطني وتعزيز قوة الارادة السياسية العراقية، وإلزام حكومة اقليم كردستان بالتعاون في هذا الإطار واظهار موقف حاسم يتفق مع موقف الحكومة الاتحادية مقابل مساعدته مالياً.
تناقض المواقف بين حكومة اقليم كردستان والحكومة الاتحادية، وتأييد البعض لهذا التواجد صراحةً او ضمنا ينم عن وجود مصالح متناثرة تتأمل ان يكون الفاعل الاقليمي حليف لها في المستقبل يدعم مشروعها السياسي على افتراض ثبات المتغيرات، ومتناسية ان تغيير بوصلة المصالح لهذا الفاعل هي المتحكمة في حركة تحالفاته.
ونحن امام عملية مهمة وهي تحرير مدينة الموصل اخر رقعة لداعش الارهابي في العراق، لابد من إدراك صانع القرار العراقي الى ان نجاح العملية يعتمد على تحقيق التوازن بين المصالح المتنافسة بين الشركاء في الداخل والتمييز بين الشركاء الاستراتيجيين والتكتيكيين.
اضافةتعليق