بعد أكثر من خمسة أعوام علي اندلاع ثورات الربيع العربي من عام 2011، والتي بدأت بتونس وامتدت هذه الثورات إلي مصر، وليبيا، وسوريا واليمن، ورغم وجود بعض العناصر المشتركة بين تلك الثورات ، فإنها لم تكن متماثلة أو متطابقة تماما، وتعود الاختلافات بين ثورات الربيع العربي إلي فروق مهمة فيما بين تلك الدول التي شهدت تلك الثورات من حيث عناصر الجغرافيا، وعناصر السكان، والوضع الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، كذلك اختلاف مواقف وسياسات القوى الكبرى والإقليمية من دول الربيع العربي ومن ثوراتها، فعلى الرغم من أن اغلب ثورات الربيع العربي قد شهدت تدخلات، أو سياسات، أو مواقف مؤثرة من قوى دولية وإقليمية، إلا إن حجم، واستمرار وأدوات تلك السياسات والتدخلات اختلفت من حالة إلي أخرى من حالات دول الربيع العربي، ففي الحالة الليبية، حدث تدخل عسكري دولي من جانب حلف شمال الأطلنطي (الناتو) فيما عُدّ تطبيقا لقرار مجلس الأمن، الذي كان قد سبقه قرار لجامعة الدول العربية، بما سهل مهمة المتدخلين الدوليين من خارج الإقليم لحسم مسألة القضاء علي نظام الرئيس (معمر ألقذافي)، وكان من نتائج ذلك التدخل الدولي العسكري هو نشوء وضع دولة فاشلة، أو مجتمع بلا دولة، وهو تحد تواجهه الآن دولة اليمن، لكن مع اختلاف مهم يتمثل في أن القوى الخارجية التي تلعب دورا مهما في اليمن هذه الأيام هي قوى إقليمية، مدعومة من قوى دولية، أما في مصر وتونس، فهما مختلفتان عن حالتي ليبيا واليمن، وكذلك عن حالتي سوريا والعراق، اللتين سوف تركز عليهما هذه المقالة العلمية.
هناك تدخل عسكري وسياسي دولي وإقليمي مباشر في سوريا والعراق وجود عسكري وهو عائد لقوى عظمي، مثل أمريكا وروسيا، أو قوى إقليمية مثل إيران والسعودية وتركيا، بالإضافة إلى وجود أكبر تنظيم إرهابي فيهما وهو تنظيم "داعش" الموجود في هاتين الدولتين منذ عدة سنوات، وهو مؤثر بفعالية علي الحالة في العراق منذ عام 2003، وفي سوريا منذ عام 2011، وإن كان الوجود والتأثير الكبير في العراق تم منذ اجتياح التنظيم لعدة مدن عراقية عام 2014.
هذا التدخل الروسي المباشر سبقه تدخل عسكري مباشر من قبل بعض الدول الإقليمية، مثل تدخل حزب الله لمساعدة النظام السوري، أو غير المباشر مثل التدخل الإيراني من خلال الخبراء والأسلحة ومواد التمويل الأخرى إلى جانب النظام، أو التدخل التركي والسعودي والقطري من خلال مساعدة المعارضة السورية بكافة اتجاهاتها، فقد قدمت دول الخليج الدعم المالي والعسكري للمعارضة وتسهيل دخول هذا الدعم من خلال الأراضي التركية، كما إن هناك التدخل الأمريكي من خلال الغارات الجوية ضد تنظيم داعش في سوريا، وفي نفس الوقت تقدم المساعدات والأسلحة للمعارضة التي تسميها المعتدلة.
لقد جاء التفوق الروسي في سوريا لعدة أسباب منها:
1- إن الوجود العسكري الروسي المكثف في سوريا مهم ومؤثر؛ بسبب نوعية وتقدم منظومات التسلح الجوي والدفاعي المستخدم بكثافة يومية من جانب روسيا الاتحادية، التي تعد سوريا أهم حلفائها الإقليميين في المنطقة العربية، ولذلك يصبح لها مصلحة إستراتيجية في استمرارية علاقتها الإستراتيجية - السياسية منها والعسكرية، ولهذا فان العمليات العسكرية الروسية علي الأرض ضد تنظيم "داعش"، قد وسعت من الدور الروسي الجديد، لان تنظيم داعش بشكل مصدرا للإرهاب، ليس فقط لدولتي سوريا والعراق، وإنما لكثير من الدول والقوى الإقليمية العربية، والشرق أوسطية، والقوى الدولية، علي اتساع نطاق جغرافيته العالمية.
2- منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، كان واضحا للجميع أن روسيا تحاول بقاء تأثيرها في سوريا من ثلاث زوايا، الأولي، هي الدفاع عن استمرار النظام السوري بقيادة ( بشار الأسد )، ورغم الإقرار بضرورة إصلاح النظام السياسي السوري، إلا إن روسيا تريد إن يكون الوصول إلى الحل السياسي في سوريا سلميا وعن طريق المفاوضات، وقد كان ذلك واضحا في الموقف الروسي منذ مؤتمر جنيف-1-2-3 وحتى الآن، أما الثانية، فتتمثل في ضرورة المشاركة الروسية، وبفاعلية، في ضرب الإرهاب، لأن استمراره، أو تصاعده، ونموه، وزيادة خطورته يمكن أن يؤدي إلي امتداد خطر الإرهاب إلي آسيا الوسطي، وإلي الجوار الروسي، أو إلي الداخل الروسي، من خلال تصعيد الإرهاب مجددا في منطقة الجمهوريات الإسلامية في القوقاز وخاصة في الشيشان، وثالثا، فتتمثل في استهداف تطوير وتوسيع القوة العسكرية الروسية الموجودة في اللاذقية وطرطوس، أو في المناطق المتواصلة مع حلب، وحماه، وحمص، وغيرها من المواقع المهمة للوجود الروسي داخل سوريا، ويلفت النظر أن أحد خطوط السياسة الروسية يتمثل في العمل بشكل منظم علي زيادة تطوير الوجود العسكري الروسي داخل سوريا، مقارنة بما كان عليه الوضع في العقود والسنوات السابقة علي الثورة.
3- كانت الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وبصفة خاصة في العراق، وفي التعامل مع جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، من بين العوامل التي شاركت في تهيئة بيئة مناسبة للسياسة الروسية في الشرق الأوسط، وربما يكون ذلك قد أدي إلي فراغ قوة أمريكي في تلك المنطقة بما ساعد روسيا علي التقدم لملأه، ولو جزئيا، من خلال سياستها في التحالف مع سوريا والعراق والتعاون مع إيران، وحزب الله، وهكذا، تقود موسكو محورا رباعيا منها، ومن سوريا، وإيران، والعراق.
4- إن الدور الروسي، في إدارة الموقف، والوضع، والأزمة في سوريا أقوى وأكثر فعالية من أدوار القوى الإقليمية ذات التأثير في الأزمة السورية مثل السعودية وتركيا وإيران، وهذا شيء طبيعي، لان الدور الدولي عادة ما يكون أقوى وأكثر خبرة من الدور الإقليمي، مع إمكانية وجود دور إقليمي في المنطقة نفسها قد يعني جغرافيا، وديموجرافيا، وثقافيا، أن دوره وأثره يمكن أن يكونا أكثر فعالية من الدور الدولي، ولكن هذا الرأي قد تغير لصالح روسيا في ضوء حرصها علي توظيف الدور الإقليمي لصالحها من خلال التعاون معه، كما تفعل روسيا مع إيران، وحتى مع العراق، وكما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية مع تركيا والعراق، وربما إيران لوجودها وتأثيرها في الداخل العراقي، والداخل السوري، وهو ما يمكن أن يساعد علي التوصل إلي الصفقة غير المعلنة ، وإلي إعطاء مساحة أكبر للتعاون، أو التنسيق، أو التحالف مع هذه القوى الإقليمية، وليس قوى عالمية، أو دولية، يعني ذلك أنه في حالة موضوعنا، ربما سيكون هناك اتجاه لمزيد من التنظيم للفوائد والمصالح الناتجة عن التحالف مع قوى إقليمية، خاصة إذا كانت القضية الرئيسية في التحالف موضع البحث قضية غير عالمية، كتلك الخاصة بالأزمة السورية، وربما، وإن كان بدرجات أقل، قضايا الشرق الأوسط، أو العالم العربي الأخرى.
5- نجاح الدور الروسي في سوريا له دلالة، خصوصا تأثير عامل الجغرافيا السياسية في سوريا، وهو حالة الوصول إليها، والدخول إليها، والخروج منها، كذلك، أمرا سهلا، أو علي الأقل أسهل بكثير من حالة بعض الدول المغلقة، وهنا، قد تركز الدولة الكبرى في تدخلها علي استخدام مباشر لقوتها العسكرية الموجودة في الإقليم أو المنطقة العربية، أو أن يكون لديها ذلك الوجود للقوة العسكرية داخل الدولة العربية التي تمر بمرحلة أزمة إستراتيجية، قد تصل إلي حد الحرب الأهلية، وهذا يجعل القوى الكبرى في تدخلها أكثر فاعلية، كما هو الوضع خلال السنوات الخمس الأخيرة في سوريا، حيث توجد قوة عسكرية روسية داخل سوريا، أو بالقرب منها، وعملية شرعنة استخدام روسيا لتلك القوة ، خاصة وانه جاء بطلب من السلطة الشرعية في سوريا والمتمثلة بالرئيس ( بشار الأسد)، ويتم ذلك الاستخدام للقوة العسكرية الروسية، خاصة وان تلك المناطق والتي لا تزال تحت سيطرة الدولة السورية هب أراضي ساحلية يسهل الوصول إليها، ومنذ عام 2015، امتد الاستخدام الروسي للقوة العسكرية في سوريا إلي البحر المتوسط، بل وإلي بحر قزوين الذي يقع علي بعد بضعة آلاف من الكيلومترات عن الدولة السورية.
6- صحيح أن هناك أطراف إقليمية تحارب إلى جانب النظام في سوريا، مثل إيران والعراق، حزب الله اللبناني. ويعني ذلك أنه في الحالة السورية خاصة توجد قوى إقليمية حليفة لسوريا، وبالتحديد إيران، وحزب الله اللبناني. ولكن في المقابل هناك دول أخرى في الإقليم، مثل السعودية، الإمارات، وقطر، وتركيا، تقف ضد النظام في سوريا، وتتبنى مواقف سياسية متشددة في هذا الاتجاه. ولكن اللافت للنظر أن هذه المواقف الإقليمية الأخيرة أقل في تأثيرها في تطور الأزمة السورية، وأن هذا الصراع الإقليمي في سوريا يساعد علي قدرة القوى الدولية الكبرى علي التأثير والحسم في الحالة السورية، مقارنة بقدرة القوى الإقليمية، وربما تزيد فعاليات وتأثيرات القوى الدولية، خاصة الروسية والصينية، في ضوء حقيقة تدركها تلك القوى الدولية الكبرى علي نحو صحيح، وهي تلك التي تتعلق بوجود قوى إقليمية مؤيدة للدولة السورية، وهي أطراف أقوى من الأطراف الإقليمية المعادية لتلك الدولة، وهو ما يؤدي في النهاية إلي ضعف نسبي في ميزان القوة الإقليمي لمصلحة إيران، ولغير مصلحة دول الخليج العربية، أو بعضها، وهو ما يؤدي في الوقت نفسه إلي زيادة تأثير الدولي علي الإقليمي، أو بعبارة أدق زيادة قوة ونفوذ الأطراف الدولية (روسيا خاصة)، والإقليمية (إيران خاصة)، المؤيدة للدولة السورية علي تلك المساندة لقوى الثورة السورية، وربما يتأثر كل ذلك بما ستئول إليه المواجهة في المنطقة العربية، خاصة في دول الربيع العربي، وعلي نحو أخص في سوريا والعراق، مع تنظيم "داعش".
7- الاتجاه السائد في سوريا والعراق والعالم إن هذه الدول وحليفتها الدولية، روسيا الاتحادية، وحليفتها الإقليمية، إيران، هي الأطراف الأكثر انشغالا، بخوض حرب قوية فاعلة ضد تنظيم "داعش"، والإرهاب الدولي، وهذا يدفع الأمور في اتجاه مصالح هذه الأطراف، خصوصا مع غياب الجلاء، والوضوح، والفعالية عن المقابل الأمريكي المسمي التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" والإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ليس تحالفا فعالا، وهو ما يخدم الإستراتيجية الروسية في سوريا.
8- دخول دول أوروبا الغربية، وعلي نحو أخص في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، والانضمام إلي جهود دولية كبيرة ومهمة لمكافحة إرهاب تنظيم "داعش" الذي لم يعد مقصورا علي سوريا أو العراق، وإنما امتد إلي دول غربية أخرى وخاصة في فرنسا، وقد كان ذلك الامتداد إلي القارة الأوروبية، وفرنسا تحديدا، ظاهرا وجليا في أيلول عام 2015، من خلال هجمات إرهابية مدمرة علي باريس واضحا وساعيا إلي تبني خطوات وسياسات قوية من جانب المجتمع الدولي، خاصة أوروبا ضد تنظيم "داعش"، خصوصا في سوريا والعراق، ومعني ذلك أن دول أوروبا الغربية ستكون علي تنسيق، أو ربما تحالف جديد، مع روسيا من أجل ضرب تنظيم "داعش" في كل مواقعها، خاصة في سوريا والعراق، وسيكون معني ذلك أن الضربات الجوية الكثيرة، والكبيرة، والقوية التي تقوم بها روسيا، بالتعاون مع الدولة السورية، يمكن أن تعطي إطارا فعالا للدول الأوروبية، والتي من الواضح حتى الآن أن منها اثنتين في الطريق، هما فرنسا وألمانيا.
9- ينظر السوريون اليوم إلى روسيا بأنها دولة إنقاذ لهم، اذ إن صور الرئيس الروسي منتشرة في كل سوريا، بعد إن وقفت اغلب الدول العربية والغربية ضدهم، بل أصبحت هذه الدول تدفع المليارات من الدولارات من اجل استمرار الحرب في سوريا ، خاصة وان التدخل الروسي قد قلب موازين القوى لصالح الجيش السوري الذي تقدم وإعادة السيطرة على الكثير من المناطق المهمة في سوريا ومنها فتح الحصار عن الكثير من البلدات المحاصرة مثل مدينة (نبل والزهراني) في حلب، والتي لا يمكن إن تحرر بدون تدخل روسيا.
10- إقرار اتفاق إيران النووي مع دول (5+1) في شهر أيلول 2015، يشير إلي غياب الصراع، ولو تدريجيا، من خريطة العلاقات الإيرانية - الأمريكية والأوروبية، ومعني ما تقدم أن وجود صفقة روسية - أمريكية، أو غربية، في التعامل مع قضية مكافحة الإرهاب، وقضية الأزمة السورية الحادة والممتدة، هو أمر وارد، إن لم يكن قائما بالفعل، وذلك علي المستويات السياسية، بل وحتى العسكرية، واللافت للنظر أن مثل تلك الصفقة قد تقوم علي عنصر السماح لروسيا باستمرار نفوذها في سوريا بالتعاون مع إيران .
خلاصة القول، إن تفوق الدور الروسي في سوريا على غيره من الأدوار العالمية والإقليمية لم يأتي من لأسباب أعلاه فقط، لان اغلب التحليلات تؤكد إن هناك اتفاقا ضمنيا على تقاسم الأدوار في سوريا والعراق، بحيث يكون لروسيا الدور الفاعل في سوريا بينما يكون لأمريكا الدور ذاته في العراق، كما إن سعي بعض دول الإقليم للتدخل في سوريا هو سعي في غير محله، لان القوى الدولية سوف لن تسمح لهذه الدول أن تكون عقبة في تحقيق أهدافها في المنطقة، وما سعي هذه الدول -وخاصة الدول الإقليمية الغير مؤثرة والتابعة مثل السعودية وتركيا- إلا محاولة للفت الأنظار إليها من قبل القوى الإقليمية.