وحوش المعرفة

منذ الوهلة الاولى ، خصوصا تلك اللحظة التي يتوقف عندها القارئ امام هذا العنوان ، سوف يعتقد جازما اننا نتحدث عن وحوش بمميزات خاصة تعرفها نمطية التفكير ، ويظن انه يقع تحت هذا المفهوم " مفهوم الوحش " تلك الصورة للحيوان المفترس المنقرض او الـ لا منقرض ، المهم ان الصورة التي سوف ترتع في ذهنيته لا تبتعد كثيرا عن ذلك الشكل البشع ذو الاسنان الطويلة ، او الرأس البشع الكبير، فالصورة التي سترد الى مخيلته لا تختلف عن تلك الحيوانات او الوحوش المفترسة التي تعرفها شرائع الغاب تحت مفهوم " الحيوان المفترس" ، او " الوحش الكاسر المدمر" بمعناه الدقيق ، متناسيا ان للوحوش انواع ووحش المعرفة من اشدها ضراوة وبأسا وتدميرا ، لان الوحش بمفهومه العام يقتل شخصا ، او شخصين او عشر أو دون ذلك عددا ، أما وحوش المعرفة المقصودة في بحثنا هذا ، فهذه الوحوش تقتل اٌمة بأكملها ، وتلتهم بأسنانها شعبا بأجمعه ، لأنها تستهدف حضارة كاملة بكمها المادي والمعنوي ، وتوقف عجلة التقدم في هذه الحضارة او تلك ، لتحيلها ركاما تحت اقدامها. ما ان تقع معرفة وأيديولوجيا الشعوب تحت وطأة وتهديد ورحمة هذه الوحوش حتى تبدأ مرحلة خطرة من مراحل انهيارها، مرحلة تنذر بخطر داهم يهدد بنيتها الثقافية وتدق ساعة الصفر بإعلان تراجع الامة او تقدمها اشواطا. والذوبان في الماضي وروح اليأس التي تسيطر على أي شعب من الشعوب وحش يلقبه علماء المعرفة " وحش الماضي" – علما ان الاصالة لا تدخل ضمن هذا التصنيف ولا نقصد بها شكلا من اشكال الماضي_ لأنها اصالة قابلة للتجديد والاستمرار اذا ما نهلت منها الشعوب واسست عليها قواعد انطلاقتها الجديدة ومثالنا في هذه الاستثناءات الاصيلة " الثورة الحسينية " فـ الأصالة الديناميكية التي تبث في روح الامة دماءا متجددة من الوعي غير مصنفة ضمن تصنيفات وحوش المعرفة. وعندما تكون الامة مأسورة لمنظومة الماضي السحيق ، او منظومة المستقبل البعيد ستفقد السيطرة على الواقع فيكون " الماضي السحيق " و " المستقبل البعيد " هي وحوش المعرفة التي تقف حائلا دون تقدم الشعوب ، بل وتساهم في منع الشعوب من التقدم خطوة بخطوة مع الشعوب الاخرى ، فعلى سبيل المثال مفهوم " الصيحة " في منظومة التفكير الاسلامية يحيلها العقل الاسلامي الى الماضي السحيق ايام قوم نبي الله لوط(ع) عندما شذ شذوذهم وارتكبوا الفظائع حينذاك ، وهنا تتوقف المنظومة عن التفكير بالصيحة عند حدود الماضي السحيق ، فالعبرة استلهمتها الشعوب الاسلامية ، الا ان هناك احداثا مهمة مرتبطة بذلك هي تأثير الصوت على الحياة العامة وكيف ان هذا الصوت يحدث تغييرا في الواقع فالعلم الحديث يجعل الصوت " طبا لمن فقدوا أسماعهم " ، والعلم الحديث يعني له الصوت " سلاحا استراتيجيا ربما لا يضاهى " كما فعلت فرنسا وهكذا ... الخطر الذي يهدد المسلمين بسبب مؤثرات هذين الوحشين هو ابتعاد او استبعاد الواقع عن منظومة التفكير الاسلامية ، وبسبب مؤثرات ما اسميناه هنا وحش المعرفة " الماضي السحيق" وعندما ترغب المنظومة الاسلامية في التحرر من قيود الماضي السحيق تحيل الصيحة الى المستقبل البعيد ، وتستحضر المنظومة المعرفية الاسلامية " يوم القيامة " لتكون بابا مهما ومؤثرا من ابواب تفسير الآيات من هذا النوع ، نعم ... ثم علاقة بين الصيحة ويوم القيامة ، لكن هذا لا يعني ان تبقى المعرفة الاسلامية مأسورة لذلك ، لان هذه المخيلة ستساهم في فقدان السيطرة على الواقع ، فالقرآن ماضي وحاضر ومستقبل وهنا سر قوته ، ولم يكن في يوم الايام ، او في نص من النصوص ماضي سحيق او مستقبل بعيد ، ومن هذا المنطلق يتحول الماضي السحيق والمستقبل البعيد ، بهيئة وحوش للمعرفة والأيديولوجيا تسعى الى ايذاء المنظومة الفكرية الاسلامية ايما ايذاء خصوصا بإبعادها عن الواقع " الحاضر " او المستقبل القريب . يؤدي ذلك الى تفريغ الحياة الواقعية الاسلامية من محتواها المعرفي ومحتواها الأيديولوجي ، فتصبح منظومة الماضي السحيق ، ومنظومة المستقبل البعيد وحوش معرفية تسيطر على العقل الاسلامي وتساهم في فقدان التركيز على الواقع ، لتدخل قوة معرفية ربما تكون مضادة للمرتكزات الاسلامية تملك اسس السيطرة على الواقع فتستولي على مفاهيمه وتحكم سيطرتها التامة على احداثه ووقائعه ، فتدخل الثقافة الجديدة و بسبب سيطرتها على الواقع في قلب المنظومة التفكيرية الاسلامية (الحاضر) ، في الوقت الذي تبتعد شيئا فشيئا مخيلة العقل الاسلامي نحو طرفي المعادلة ( الماضي السحيق ----- المستقبل البعيد ) فيحدث الارباك الايديولوجي بسبب التهديد القادم من الوحشين المذكورين اللذين يستهدفان المنظومة الاسلامية في اي عملية من عمليات التفكير بالواقع . في الماضي أصالة وعبرة وتراث انساني لا يمكن الاستغناء عنه تحت أي ظرف كان ، وهي ليست موضوع بحثي هذا ، والمستقبل البعيد يوم القيامة محط احترام في منظومتنا المعرفية لان بها ومنها نستمد قوتنا للسيطرة على الواقع وضبط ايقاعاته المعرفية والأيديولوجية ، لان هذا البحث انتقاد الى صنفين من اصناف من يسمون انفسهم المفكرين " صنف المتراجعين" ، و" صنف الحالمين دون عمل لتحقيق هذا الحلم" فـ الاصالة والمستقبل الجميل بحياة خالدة أبدية وعد الله المؤمنين بها ، كلاهما اسس لا يمكن الاستغناء عنهما ، ولا يمكن انصاف الاصالة دون برمجة للاستفادة منها ، كما لا يمكن الوصول للمستقبل القريب او البعيد من غير برمجة حياتنا الواقعية ، وبقاؤنا مأسورين للمنظومتين ينسينا الواقع فنصبح غير منصفين للأصالة ، وغير منصفين حتى للمستقبل لانه سوف يتسبب بعملية قطع للأوردة الثلاثية التي تغذي حركة المجتمعات نحو الفضيلة والكمال الوريد الاول " الماضي – الاصالة " والوريد الثاني " الحاضر – التجديد" والوريد الثالث " المستقبل – الاستعداد والديناميكية " ، بقاء العقل الاسلامي مأسورا تحت وطأة الوحشين يعني ارباك هذه المنظومة وقتل الامة الاسلامية بحرب خفية اسمها حرب المعرفة او حرب الايديولوجيا .
التعليقات