أخلاقيات المعارضة السياسية

تعد المعارضة السياسية أحد الأركان المهمة لتطور المجتمعات ومقياساً للتقدم والحضارة فيها، ويفترض بهذه المعارضة السياسية أن تحافظ على أصالة المجتمع وثقافته وأخلاقياته. وقد أهتم المتخصصون بالعلوم الإنسانية المختلفة بإعطاء أهمية كبيرة للأخلاقيات المهنية على أساس أن لكل مهنة أخلاقياتها، وتأتي في مقدمتها المعارضة السياسية. والمعارضة اصطلاحا هي عدم الموافقة على قرار سبق اتخاذه أو مناهضة اتجاه لاتخاذ قرار معين ، فهم مجموعة من الناس التقت آراؤهم وتحركت للوقوف ضد السياسات الحاكمة في بلد من البلدان، ويقدم هؤلاء آراء مضادة لآراء السلطة الحاكمة من خلال الأطر الدستورية والقانونية، فهم معارضون لسياسات ضمن نظام الدولة، أما إذا وصلت معارضتهم لوجود النظام بالكلية فهم حينئذٍ جماعة خارجة على القانون. والمعارضة كمفهوم سياسي وفي إطار التعددية الحزبية تعني طرح المشاريع ‏المختلفة أمام المواطنين لاختيار أفضلها وأكثرها توافقا مع ‏مصلحتهم في مجتمعهم؛ وهكذا فإن الصراع ليس بين الأشخاص وإنما بين ‏الأفكار، والحلول الممكنة التي تقترح لصنع التنمية المادية والثقافية والفكرية.‏ على هذا الأساس فإن الأحزاب التي تدعى بأحزاب المعارضة تقوم بالنقد من ‏أجل تفعيل الإمكانيات لتحقيق التطوير والتطور، وليس بقصد التجريح والمس ‏بكرامات هذا أو ذاك. وهكذا، فإن العمل السياسي في صيغة المعارضة لا يعني ‏إلا المنافسة الشريفة من أجل الرفع من شأن الوطن والمواطنين ؛ ‏ففي ظل المنافسة الجادة فإن الغلبة تكون للفكرة المفيدة، وللمشروع العملي.‏ وسواء أكانت تلك المعارضة السياسية موضوعة من الدولة لتكون موجهة أم لم تتدخل الدولة او الحكومات في وضعها فان واقع الحال يؤكد وجودها أصلاً في الحالين وحسب نوعية المجتمعات ليبرالية كانت ام اشتراكية ام غير ذلك. أن الموضوع يقع ضمن الإطار الذي يعطي فكرة مختصرة هي المعارضة السياسية وأهمية تمتعها بالأخلاقيات التي تجعلها معارضة بناءة وليس هدامة للنظام السياسي والدولة. ونعني بالأخلاقيات في العمل السياسي، أن على السياسيين في المعارضة السياسية ((أن يلتزموا في سلوكهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين وتجاه جماهيرهم بمبادئ وقيم أساسية. والالتزام بهذه المبادئ والقيم الأساسية نوع من الواجبات الشخصية، أي أنه التزام شخصي يقع على كل واحد منهم بصفة شخصية ليكون سلوكاً سليماً وأخلاقياً)). وإذا كان ثمة فرق ما بين الأخلاقيات والممارسة، فإن الأخلاقيات عبارة عن قواعد موضوعة تعبر عن السلوك المهني المطلوب من القائمين على المعارضة السياسية الالتزام بها، وتبقى هذه الأخلاقيات عديمة الفائدة ما لم تترجم إلى واقع عملي ملموس خلال ممارسة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحركات الثورية المسلحة لعملية المعارضة للنظام السياسي أو تأدية الواجبات المناطة بها، مثل احترام حقوق الإنسان , وحماية المدنيين بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية والحزبية, كذلك وضع مصالح البلاد العليا في المقام الأول وعدم المساس بها, فالمعارضة تكون لبعض سياسات السلطة الحاكمة والتي تكون قد أضرت بالشعب بصورة مباشرة او غير مباشرة, وليس للنظام القانوني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد, او وحدة الأراضي , او المصلحة العليا للدولة , او حل الأجهزة الإدارية والأمنية للدولة قبل ان تستكمل الأجهزة البديلة وبهذا تكون المعارضة السياسية قد وضعت مصير البلاد ككل على المحك. وانطلاقاً من هذا الفهم فأنه توجه الكثير من الانتقادات للمعارضة السياسية في بعض دول العالم (وخاصة الدول النامية) على أنهم يفتقدون الاهتمام بالسلوكيات الأخلاقية، ومن ثم يفتقدون التزاماتهم المعنوية نحو السلوكيات الأخلاقية والتمسك بها على الرغم من أن هناك استثناءات تشمل الكثير من المعارضة السياسية ولا تنطبق عليهم هذه الانتقادات مما يتطلب الاهتمام بهذا الجانب. وإذا ما انتقلنا إلى تحديد مدى خطورة المعارضة السياسية التي لا تتبنى دورا وطنيا، فيمكن تأشيرها ببعدين أساسين هما: خطورتها على الدولة أولاً كونها تجعل العمل السياسي مرتبط بالخارج ، والثانية ما تشكله من خطورة على المجتمع عند ابتعاد من يمارسها عن أخلاقيات المعارضة الوطنية ،وفي هذا المناخ نشأت تيارات في شكل أحزاب تعمل في السر دون أن تتمكن من ‏خوض غمار النشاط في الميدان؛ وهكذا اكتفت بالمناقشات في الغرف واللقاءات ‏بين العناصر المشكلة لها بشريا. في ظل هذا المناخ صارت السلطة تنظر إلى ‏مفهوم التعددية كشكل مستورد من الخارج، وكرديف لتقسيم المجتمع، وكتهديد ‏للوحدة العقائدية السياسية، وللوحدة الوطنية أيضا، ونتيجة لذلك حدثت نوع من الريبة والخوف والتخوين بين الأطراف المختلفة. وبسبب ذلك بقيت التعددية الحزبية في حالة من الفوضى ‏حيث لم ينظر إليها كأسلوب لتوسيع المشاركة في الحكم وممارسة السلطة في ‏إطار الجماعية من أجل تفعيل فكرة الديمقراطية أو على الأقل الشروع في تعلم ‏بعض مبادئها وتطبيقاتها في الحياة العامة, بل أصبحت عائقا أمام تطبيق نظام الحكم الدستوري والمبني على الشرعية السياسية, والمقبولية من كل أطراف المجتمع, واتجه كل طرف إلى تحشيد أنصاره والتقوقع في محيطه بعيدا عن التمثيل الواسع الذي يجمع كل المجتمع. ولعل من الأمور المهمة التي تتعلق بقضية الأخلاقيات هو ارتباطها بالمجال التربوي ويتضح هذا الارتباط من خلال الدور التربوي الذي تمارسه المعارضة السياسية الرصينة والوطنية كونه جزءاً من وظائفها العامة والشاملة , إذ تمارس دورا مهما من خلال المؤسسات الاجتماعية التربوية، ومن ثم فأن الأخلاقيات وقضاياها تدخل في اختصاص المجال التربوي الذي يستهدف غرس الأخلاقيات السليمة في المجتمع واستكمال هذا الهدف بترجمة الأخلاق إلى سلوكيات تمارس في الحياة. وإن هذه الأحزاب المعارضة تعارض الحكم القائم لتحل محله ومن ثم تقلده في ‏كل شيء؛ ولقد أثبتت التجربة أن جميع الأحزاب المعارضة تتصرف وكأنها ‏ليست جزءا من المجتمع المدني، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تظهر ‏نفسها كمشروع لاحتواء المعارضات الأخرى. أما إذا تأملنا موزاييك ظاهرة ‏الائتلاف فإننا نجد أحزاب المعارضة التي توجد إلى جانب الحزب التقليدي ‏الحاكم وتتقاسم مع هذا الأخير الحقائب الوزارية، وكذلك أسلوب ‏الحكم النخبوي المركزي وغير الشعبي، كما تتقاسم معه المصالح المادية- وكما هو موجود في بعض دول الشرق الأوسط- ‏التي تتقاسم الغنائم مع السلطة ومن ثم تتجه إلى محاولة إسقاط السلطة الحاكمة والإحلال محلها مع اقل أزمة تمر بها البلاد , حتى أنها لا تتوانى عن التعاون مع الخارج في محاولة إسقاط نظام الحكم , وحتى إسقاط الدولة, لذلك فالمعارضة في بعض دول الشرق الأوسط هي معارضة هدامة وليس بناءة , إن المعارضة السلمية تؤمن بالنظام أو تعمل كي يكون بصورة أفضل، ولهذا فهي ذات مسعى طيب، وتستخدم في مسعاها الكلمة والقلم وكل الوسائل الشرعية، ومنها التغيير السلمي، وهذا العمل هو جزء من المهام التي تقوم بها , ونرى وسائل المعارضة المكتوبة في صحف المعارضة السياسية والبيانات والمسيرات والمناشدات والمقابلات والاعتصام والمراسلات كما هو الحال في الأردن على سبيل المثال (صحيفة السبيل "إسلاميون"؛ وصحيفة الجماهير "شيوعيون"(، وفي وسائل الإعلام المرئي كما هو الحال في تلفزيون المنار في لبنان التابع لحزب الله الشيعي، وفي استخدام الكلمة في البرلمان الأردني والمصري واللبناني والمغربي والكويتي. وقد اتسعت وسائل التعبير السياسي اليوم أمام المعارضة حيث القنوات الفضائية وتقنيات الاتصال الحديثة ومواقع الإنترنت ومن ثم ضاق التفكير في الثورات التي لم تعد مقبولة وربما غير ممكنة هذه الأيام ولكن علينا أن لا ننسى أن للمعارضة دور هام في الرقابة على أداء السلطة، فالأخيرة ليست معصومة، وما دام الخطأ وارداً فإن تدقيق الأداء لتمييز الخطأ من الصواب يعد أمراً في غاية الأهمية. فالمعارضة المبصرة تسهم في الانضباط السلوكي لرجال السلطة التنفيذية، ومن لم ينضبط يتم تنبيهه ليصلح الخطأ، فإن أصر فلا بد من السعي السلمي لتغييره. وإن الدول الديمقراطية المعاصرة مدركة تمام الإدراك لدور المعارضة حيث تسهم المعارضة في تنفيس الاحتقانات، وها نحن نرى بريطانيا رائدة السياسة في الدول المعاصرة تقيم حديقة في لندن (Hide Park ) لتكون منطقة حرة في السياسة، ولهذا يرى الزائرون للندن كيف يقف أشخاص في تلك الحديقة يجاهرون بآرائهم دون أن تلحق بهم مساءلة أو استجواب. وتعمد بعض الدول لاستخدام المعارضة من أجل أخذ المعونات الخارجية، كما إن وجود المعارضة وأداءها لدورها يحول دون تسلط الحاكم، ولهذا نلحظ أن الدكتاتوريين يزدادون غطرسة كلما غاب رأي الناس أو اعتراضهم. كذلك علينا الانتباه إلى أن هناك أسباب قد تدفع بالمعارضة السياسية إلى الابتعاد عن أخلاقيات العمل السياسي المعارض, ومنها أن النخب السياسية التي كانت في الحكم في هذه المراحل ‏الأولى اعتبرت شكلا من أشكال القوى المهيمنة ؛ وعلى هذا الأساس أبعدت التعددية السياسية ظاهريا عن التطبيق، كذلك ‏هناك أسباب أخرى، وهي أن ‏النخب الحاكمة لم تكن تقبل بالمنافسة السياسية، وتعد ذلك طعنا في شرعيتها ‏الثورية، وفي تاريخها النضالي، المسلح أيضا, وبالتالي جعل المعارضة السياسية تتجه إلى الإعمال الأخرى التي تراها ضرورية للوصول إلى أهدافها , سواء كانت هذه الأعمال سلمية او غير سلمية, تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الدول العليا ام لا, أخلاقية أم غير أخلاقية. وبهذا نستنتج مما سبق أن على المعارضة السياسية الناجحة والتي تتمتع بالأخلاقيات السياسية أن تتميز بالاتي: 1- إن التعددية الحزبية ببلداننا في حاجة إلى التعلم من الممارسة والنظرية ‏معا، وفي حاجة ماسة إلى برنامج تلتزم به من أجل تجسيده عمليا؛ والحال فإن ‏بلداننا الخارجة من السيطرة والاحتلال قد عملت القليل لمعالجة آثار ومظاهر ‏التخريب الموروث عن ذلك الاستعمار، ولقد سلكت بلداننا بعد الاستقلال مباشرة ‏نهج الحزب الواحد، وعملت بمركزية السلطة، مما أجّل التعددية الحزبية ‏كأسلوب لتداولها، وإعمال الفكر لإخصاب المشاريع المتعددة، وكذا وجهات ‏النظر المتنوعة من أجل إنجاز مشروع الدولة الوطنية المتحررة من ارتباطاتها ‏بالمراكز الاستعمارية سابقا في شتى المجالات. ‏ 2- مما لا شك فيه أن قبول بعض بلداننا بالتعددية السياسية الشكلية يعد خطوة ‏إيجابية ولو أن ذلك ليس بالهدف الاستراتيجي المتمثل في تأسيس ثقافة تداول ‏الحكم والتعلم من هذه الفلسفة لتوزيع السلطة بما يؤدي إلى إنجاز مشروع دولة ‏الرفاه الاجتماعي، والتطور الفكري والمناخ النفسي السوي. وفي التحليل ‏الأخير، فإن التعددية الحزبية القائمة في الوقت الحاضر ببلداننا هي أشبه ‏بالاحتواء للمعارضة، لأن هذه المعارضة نفسها قد فقدت رصيدها الشعبي؛ ومع ‏الأسف فإنها بذلك قد أعادت إنتاج سلوكيات وأفكار وممارسات السلطة الحاكمة.‏ 3- ‏والمطلوب هو إعادة النظر جذريا في ثقافة التعددية السياسية وأخلاقياتها من ‏أجل تدقيق مفهوم المعارضة باعتبارها ذات طابع مدني سلمي ثقافي، سياسي ‏وحضاري. إنه من الضروري فتح النقاش الجماهيري حول مدلول ‏‏"المعارضة" وحول أخلاقيات الممارسة السياسية في أفقها الأكثر حداثة. وبدون ‏هذا، فإن التعددية الحزبية ببلداننا سوف تبقى امتدادا لتعدد الأغراض والمصالح ‏الخاصة، وللعشائرية، والشللية والنخبوية المتزمتة. 4- إن قوة حزبية بعينها في السلطة ترى في الحكومة اليوم غنيمة جاءت إليها لا لتتداول الحكم انتخابيا ولا لتنفيذ برنامج لمرحلة يحكم عليها الشعب مجددا ودوريا بل لانتزاع السلطة انتقاما من غريم ترى فيه خصما وجوديا؛ فأما هو وأما هي في الوجود، ومن هنا مكمن مخاطر عميقة الغور في مسيرة العملية السياسية, كما إن استمرار العمل بمنطق البيعة الأبدية وإقصاء الآخر وبمنطق تمثيل الإرادة الإلهية بديلا عن تمثيل الشعب بالتفويض الانتخابي لمدة انتخابية محدودة ومحددة مشروطة فضلا عن فرض مقاسات فلسفة سياسية بعينها وإخضاع المجتمع لمنطق أيديولوجي عقائدي أحادي؛ إنّ هذا ليس سوى الحكم بالإعدام على الديمقراطية وآلياتها وطبعا على خيار الشعب وأطيافه ، والبديل يكمن في أنضج تفاعل بين أطراف العملية السياسية، حيث لا إلغاء ولا إقصاء.. وحيث احترام الآخر , وحيث العلاقة البنائية بين القوى الحزبية باستخدام النقد البناء أي بأن تتقدم كل قوة حزبية ببرامج وحلول ومعالجات وتبدأ بحوار موضوعي هادئ يصل إلى نتائج جدية مؤثرة وفاعلة في الميدان وعلى أرض الواقع خدمة لمسيرة بناء الوطن والإنسان..
التعليقات